السؤال
نقل بعض المؤرخين عن بعض العلماء كالإمام الطبري أن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- ليس فقيها. والإمام الطحاوي لا يذكر خلاف الإمام أحمد في كتابه "اختلاف العلماء"
فهل صحيح أن العلماء المتقدمين يعدون الإمام أحمد محدثا فقط وليس بفقيه؟
أرجو توضيح هذه المسألة بعون الله تعالى.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأما مكانة الإمام أحمد الفقهية ومنزلته التي اختصه الله بها من العلم والدين فأبين من أن يستدل عليها، ونظرة واحدة تجيلها بين كتب التراجم؛ كالبداية لابن كثير، والسير للذهبي، وغيرها تطلعك من ذلك على ما لا ينقضي منه العجب، وقد فشت هذه الأحدوثة عند بعض الشانئين لمذهب أحمد -رحمه الله- وهي أنه صاحب حديث، وليس بفقيه، فتصدى لها العلماء بالرد والإبطال حتى انعقد الإجماع على جلالة الإمام أحمد ومتين فقهه، وأن مذهبه أحد المذاهب الأربعة المتبوعة عند أهل السنة، لا مراء بينهم في ذلك.
وهاك بعض ما ذكره ابن بدران في المدخل نقلا عن ابن الجوزي بشيء من التصرف، قال رحمه الله:
وأما القياس فله من الاستنباط ما يطول شرحه، قال أبو القاسم ابن الجبلي: أكثر الناس يظنون أن أحمد إنما كان أكثر ذكره لموضع المحبة وليس هو كذلك، كان أحمد بن حنبل إذا سئل عن المسألة كان علم الدنيا بين عينيه. وقال إبراهيم الحربي: رأيت أحمد بن حنبل فرأيته كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف يقول ما شاء ويمسك ما شاء. وقال أحمد بن سعيد الرازي: ما رأيت أسود رأس أحفظ لحديث رسول الله ولا أعلم بفقهه ومعانيه من أحمد. قال الخلال: كان أحمد قد كتب كتب الرأي وحفظها ثم لم يلتفت إليها، وكان إذا تكلم في الفقه تكلم كلام رجل قد انتقد العلوم فتكلم عن معرفة. قال الإمام أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي البغدادي: ومن عجيب ما نسمعه عن هؤلاء الجهال أنهم يقولون أحمد ليس بفقيه لكنه محدث، وهذا غاية الجهل؛ لأنه قد خرج عنه اختيارات بناها على الأحاديث بناء لا يعرفه أكثرهم، وخرج عنه من دقيق الفقه ما ليس نراه لأحد منهم، وانفرد بما سلموه له من الحفظ وشاركهم وربما زاد على كبارهم، ثم ذكر ابن عقيل مسائل دقيقة مما استنبطه الإمام... ثم قال: ولقد كانت نوادر أحمد نوادر بالغة في الفهم إلى أقصى طبقة، قال ومن هذا فقهه واختياراته لا يحسن بالمنصف أن يغض منه في هذا العلم، وما يقصد هذا إلا مبتدع قد تمزق فؤاده من خمول كلمته وانتشار علم أحمد حتى إن أكثر العلماء يقولون: أصلي أصل أحمد، وفرعي فرع فلان. فحسبك ممن يرضى به في الأصول قدوة. انتهى
وبسط نحو هذا يطول، وذكر كلام العلماء فيه تضيق عنه هذه الفتوى المختصرة، فإذا تقرر لك هذا فلا يمتنع أن يخفى شيء من مكانة أحمد الفقهية على بعض أهل العلم، ومن ثم لا يعنى بنقل أقواله وتتبع مذهبه، ثم إن قاعدة مذهب الحنابلة ومقر أصحاب الإمام كان بغداد، ولم يخرج منها إلى الأمصار إلا لاحقا، ومن ثم لم يطلع كثير ممن حكوا الخلاف والوفاق على مذهبه رحمه الله، وارجع لتعرف أطوار تطور المذهب الحنبلي إلى المدخل المفصل للعلامة بكر أبو زيد رحمه الله.
وأما ما كان بين ابن جرير الطبري والحنابلة في عصره فأمر مشهور، فقد كانت بينهم منافرة مما يكون بين أهل العلم من الأقران، وخبر مثلها يطوى ولا يروى، والله يغفر للجميع.
والله أعلم.