السؤال
قرأت شبهة تقول: (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على شيء مقيتا (النساء: 85). كلمة "مقيت" في الأصل (م ق ت)، وتعني كره، فمقيت يعني بغيض وممقوت، ومقى الطست مقيا، يعني جلاه (النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير).
والمقيت: المقتدر، الحفيظ، كما يقول لسان العرب.
ولا شك أن ابن منظور أتى بهذا المعنى في لسان العرب؛ لينقذ القرآن من هفوة وقع فيها، لأن القرآن نفسه يقول :(إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا) (النساء 22)، فالمقت هو كره الشيء، أو الشيء الكريه، فكيف يكون الله مقيتا؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فنحن أولا نحذرك من قراءة أمثال هذه الشبهات، مع عدم القدرة منك على دفعها؛ فإن ذلك يفسد قلبك، ويجرك إلى ما لا تحمد عاقبته.
ثم اعلم أن من يوردون هذه الشبهات، هم من أجهل الناس باللغة، والدين.
والجواب المجمل عن كل ما يعرض لك من شبهة في هذا الباب، هو أن لو كان شيء من ذلك صحيحا، وكان في القرآن مطعن حقيقي؛ لكان العرب المعاصرون للنبي صلى الله عليه وسلم، وهم العرب الخلص الأقحاح، الذين لهم اليد الطولى في الفصاحة والبلاغة، أول المستنكرين له، الطاعنين به عليه، فلما لم يفعلوا شيئا من ذلك، بل سلموا لجلالته وبلاغته، ولم يستطيعوا معارضته، ولا الإتيان بسورة من مثله، دل هذا بوضوح على أنه ليس قول البشر، ولكنه كلام خالق القوى والقدر.
وننصحك لزاما بقراءة كتاب: "النبأ العظيم" للشيخ دراز -رحمه الله-؛ فإنه سيقطع عنك كل شبهة وشك في هذا الباب.
وأما ما أوردته، فكلام ساقط كل السقوط، ولا يقوله أحد يفهم كلام العرب، ولم يرج عليك إلا لضعف علمك، وقصور فهمك. ومن ثم؛ نصحناك بترك قراءة أمثال هذه الشبهات؛ وذلك أن المقت الذي هو البغض، الفعل منه مقت، فيقال: مقت يمقت مقتا، والشيء يقال له: مقيت بفتح الميم، أي: بغيض، قال في القاموس: مقته مقتا ومقاتة: أبغضه، كمقته، فهو مقيت، وممقوت. ونكاح المقت: أن يتزوج امرأة أبيه بعده، والمقتي: ذلك المتزوج، أو ولده. وما أمقته عندي: تخبر أنه ممقوت. وما أمقتني له: تخبر أنك ماقت. انتهى.
وأما الآية المستشكلة، فليست من هذا الباب، فإن مادتها: أقات، ومقيت هنا اسم فاعل من أقات يقيت، فهو مقيت، ومعناه ما ذكره المفسرون، وأهل اللغة، وغيرهم، أو هو مشتق من القوت، قال القرطبي: مقيتا معناه مقتدرا، ومنه قول الزبير بن عبد المطلب:
وذي ضغن كففت النفس عنه ... وكنت على مساءته مقيتا.
أي: قديرا. فالمعنى: إن الله تعالى يعطي كل إنسان قوته، ومنه قوله عليه السلام: (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقيت). على من رواه هكذا، أي: من هو تحت قدرته، وفي قبضته من عيال، وغيره، ذكره ابن عطية. يقول منه: قته أقوته قوتا، وأقته أقيته إقاتة، فأنا قائت ومقيت. وحكى الكسائي: أقات يقيت... وقال أبو عبيدة: المقيت الحافظ. وقال الكسائي: المقيت المقتدر. وقال النحاس: وقول أبي عبيدة أولى؛ لأنه مشتق من القوت، والقوت معناه مقدار ما يحفظ الإنسان. وقال الفراء: المقيت الذي يعطي كل رجل قوته. وجاء في الحديث: (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت) و(يقيت)، ذكره الثعلبي: وحكى ابن فارس في المجمل: المقيت المقتدر، والمقيت الحافظ، والشاهد، وما عنده قيت ليلة وقوت ليلة. انتهى.
فتبصر، ولا يستزلنك الشيطان.
والله أعلم.