السؤال
هذا هو ثاني سؤال لي بموقعكم الكريم، وأتمنى أن تكون تجربتي في سؤالكم مفيدة؛ لأني راسلت مواقع قبلكم وخذلوني، حيث إنهم لم يجيبوني. السؤال هو أني طالعت كلاما لابن تيمية في فتوى له، بمجموع الفتاوى ((رابط الفتوى: -
http://www.al-eman.com/الكتب/مجموع%20فتاوى%20ابن%20تيمية%20**/سئل%20عن%20رجلين%20قال%20أحدهما%20القرآن%20كلام%20الله%20وقال%20الآخر%20هو%20كلام%20جبريل/i112&d79371&c&p1 ))
وأردت سؤالكم عن هذا الكلام، حيث قال ابن تيمية في تلك الفتوى: ((والمتعلم إذا أخذ علم المعلم ونقله عنه، لم يفارق ذات الأول، وينتقل عنها إلى الثاني، بل نفس الحقيقة العلمية حصلت له، مثل مـا حصلت لمعلمه)). وفي نفس الفتوى قال: ((وإن أريد بالقيام: أن الشيء الذي اختص به هو بعينه، قام بغيره مختصا به، فهذا ممتنع. وإن قيل: الصفة الواحدة تقوم بموضعين. قيل: هذا ـ أيضا ـ مجمل؛ فإن أريد أن الشيء المختص بمحل، يقوم بمحل آخر، فهذا ممتنع)). فهل يقصد بقوله: ((بل نفس الحقيقة العلمية حصلت له، مثل مـا حصلت لمعلمه)).
إن نفس الحقيقة العلمية تلك، هي الشيء العام الموجود في الأذهان لا الأعيان، والموجود في الأعيان لا اشتراك فيه. أي أن ما قام بالمعلم فهو منه لا يشاركه فيه المتعلم، ولا يقوم به. وإنما ما قام بالمتعلم، هو مثل ما قام بالمعلم فقط. وهذا طبعا بين المخلوقين جائز، أما بين الخالق والمخلوق فلا؛ لأن ما قام بالمخلوق لا يماثل ما قام بالخالق؛ لأن الله ليس كمثله شيء.
فهذا ما فهمته، فإذا كان فهمي صحيحا أخبروني. وإذا كان خطأ صححوا لي.
وجزاكم الله خيرا، وأدام عليكم نعمة العلم.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلو أكمل السائل عبارة شيخ الإسلام -رحمه الله- لاتضح له المراد، ولما اشتبه عليه الكلام. ولو قرأ الفتوى بكامل سياقها، لكان أظهر وأبين.
فقول شيخ الإسلام: بل نفس الحقيقة العلمية، حصلت له، مثل مـا حصلت لمعلمه. اهـ.
أتبعه بقوله: أو ليس مثله بل يشبهه؛ ولهذا يشبه العلم بضوء السراج، كل أحد يقتبس منه وهو لم ينقص. ومن المعلوم أن من أوقد من مصباح غيره، فإنه لم ينتقل إلى سراجه شيء من جرم تلك النار، ولا شيء من صفاتها القائمة بها. اهـ.
وسبقه قوله: وأما ما اختص قيامه بنا، من حركاتنا وأصواتنا، وفهمنا وغير ذلك من صفاتنا، فلم يقم منه شيء بذات الله ـ سبحانه ـ كما أن ما اختص الرب ـ تعالى ـ بقيامه به لم ينتقل عنه، ولم يقم بغيره لا هو ولا مثله؛ فإن المخلوق إذا سمع من المخلوق كلامه، وبلغه عنه، كان ما بلغه هو كلامه، كما تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم: نضر الله امرأ سمع منا حديثا، فبلغه كما سمعه. مع أن ما قام بالنبي صلى الله عليه وسلم ـ بباطنه من العلم والإرادة وغيرهما، وبظاهره من الحركة والصوت وغيرهما ـ لم ينتقل عنه، ولم يقم بغيره، بل جميع صفات المخلوقين لا تفارق ذواتهم وتنتقل عنهم، فكيف يجوز أن يقال: إن صفة الخالق فارقت ذاته فانتقلت عنه؟ والمتعلم إذا أخذ علم المعلم ونقله عنه، لم يفارق ذات الأول، وينتقل عنها إلى الثاني. اهـ.
وبعد هذا الإيضاح من سياق العبارة محل السؤال وسباقها، لا يصح أن يشتبه معناها ومقصودها! ولا سيما مع قوله بعدها: "أو ليس مثله، بل يشبهه". ومع التشبيه الذي ذكره الشيخ للعلم بالسراج.
وقد قال الشيخ في الفتوى ذاتها، بعد العبارة التي يسأل عنها الأخ السائل بصفحات قليلة:
"وأما قوله -يعني صاحب الفتوى التي يجيب عنها شيخ الإسلام-: هذا القرآن الذي نتلوه القائم بنا حين التلاوة هو كلام الله، الذي قام به حين تكلم به؟ فلفظ القيام فيه إجمال؛ فإن أراد أن نفس صفة الرب تكون صفة لغيره، أو صفة العبد تكون صفة للرب، فليس كذلك. وإن أراد أن نفس ما ليس بمخلوق صار مخلوقا، أو ما هو مخلوق صار غير مخلوق، فليس الأمر كذلك.
وإن أراد أن ما اختص الرب بقيامه به، شاركه فيه غيره، فليس الأمر كذلك. وإن أراد: أن نفس الكلام كلامه لا كلام غيره في الحالين ـ كما تقدم تقريره ـ فالأمر كذلك.
وقد علم أن الحال إذا سمع من الله، ليس كالحال إذا سمع من خلقه، وذلك فرق بين الحالين، وإن كان الكلام واحدا. فإذا كان هذا الفرق ثابتا في كلام المخلوق مسموعا ومبلغا عنه، فثبوته في كلام الله أولى وأحرى؛ فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا يمكن أن يكون تكلمه به وسماعه مما يعرف له نظير ولا مثال، ولا يقاس ذلك بتكلم النبي صلى الله عليه وسلم وسماع الكلام منه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بشر، يمكننا أن نعرف صفاته، والرب ـ تعالى ـ لا مثال له، وهو أبعد عن مماثلة المخلوقات، أعظم من بعد مماثلة أعظم المخلوقات عن مماثلة أدناها. اهـ.
وليس بعد هذا البيان محل لسؤال السائل. وقد نص شيخ الإسلام نفسه في مواضع من كتبه على الفرق بين الوجود الذهني وبين الوجود العيني في الخارج، وأن الاشتراك إنما يقع في الأذهان لا الأعيان.
كما قال -رحمه الله-: الوجود المعين الموجود في الخارج لا اشتراك فيه، كما أن الحقيقة المعينة الموجودة في الخارج لا اشتراك فيها. وإنما العلم يدرك الوجود المشترك كما يدرك الماهية المشتركة، فالمشترك ثبوته في الذهن لا في الخارج، وما في الخارج ليس فيه اشتراك البتة. مجموعة الرسائل والمسائل.
وقال في منهاج السنة النبوية: فالله تعالى مختص بوجوده وعلمه وقدرته وسائر صفاته، والعبد لا يشركه في شيء من ذلك، والعبد أيضا مختص بوجوده وعلمه وقدرته، والله تعالى منزه عن مشاركة العبد في خصائصه، وإذا اتفقا في مسمى الوجود والعلم والقدرة، فهذا المشترك مطلق كلي يوجد في الأذهان لا في الأعيان، والموجود في الأعيان مختص لا اشتراك فيه. وهذا موضع اضطرب فيه كثير من النظار، حيث توهموا أن الاتفاق في مسمى هذه الأشياء، يوجب أن يكون الوجود الذي للرب، هو الوجود الذي للعبد. اهـ.
وقال في موضع آخر منه: هؤلاء ظنوا أن هذه الكليات موجودة في الخارج مشتركة، وذلك غلط، فإن ما في الخارج ليس فيه اشتراك، بل لكل موجود شيء يخصه لا يشركه فيه غيره، والاشتراك يقع في الأمور العامة الكلية المطلقة، وتلك لا تكون عامة مطلقة كلية إلا في الأذهان لا في الأعيان، فما فيه الاشتراك ليس فيه إلا العلم والعقل، وما به الاختصاص والامتياز -وهو الموجود في الخارج- لا اشتراك فيه، وإنما فيه اشتباه وتماثل يسمى اشتراكا، كالاشتراك في المعنى العام، والانقسام بحسب الاشتراك، فمن لم يفرق بين قسمة الكلي إلى جزئياته، والكل إلى أجزائه، كقسمة الكلمة إلى: اسم، وفعل، وحرف، وإلا غلط كما غلط كثير من الناس في هذا الموضع. اهـ.
والله أعلم.