السؤال
قلتم في الفتوى رقم: 375358، أنه تتكرر الكفارة إذا كان الشخص قد تلفظ بلفظ يفيد التكرار، وإن لم يتلفظ بلفظ يفيد التكرار، فهي كفارة واحدة.
فسؤالي هو: هل هذا العهد يفيد التكرار (أعاهد الله على قيام الليل يوميا للأبد)؟ وإذا لم يفد التكرار. فكيف يكون اللفظ يفيد التكرار؟
وهل يجوز أن أنوي أن أنكث عهدا عاهدت الله به، قبل أن أدفع كفارته؟ وهل العهد يبقى ويستمر ما دمت لم أدفع الكفارة، حتى لو نويت نكثه، ودفع الكفارة لاحقا؟
وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذه الصيغة: (أعاهد الله على قيام الليل يوميا للأبد) لا تفيد التكرار، وإنما تفيد التعميم أو الإطلاق، بمعنى أنه متى فاته القيام ولو لليلة واحدة، ولو بعد مدة طويلة، فقد حنث في عهده!
وأما الذي يفيد التكرار، فهو كلمة (كلما). وهل يؤدي غيرها معنى التكرار؟ فهذا فيه خلاف وتفصيل، إذا لم يقصد التكرار وينويه.
قال ابن عرفة في كتاب الأيمان من المختصر الفقهي: صريح لفظ المعنى لا يتوقف ثبوته به على نيته، بل لا يقبل صرفه عنه، وكنايته الظاهرة لا يتوقف عليها ويقبل صرفه عنها، وكنايته البعيدة لا تثبت فيها إلا بنيته، و "إن" و"إذا" و "أبدا" بعيدة في التكرار، فلا يثبت فيها إلا بنيته، و"متى ما" قريبة من "كلما" مجرد إرادة كونها بمعناه، يثبت التكرار بها دون استحضار نيته. اهـ. ونقله عنه المواق في التاج والإكليل.
وجاء في فتح القدير للكمال ابن الهمام: قال بعضهم في متى: إنها تفيد التكرار، كقوله:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
والحق أنها إنما تفيد عموم الأوقات، بمعنى أن أي وقت تأتي تجد ذلك، ففي: متى خرجت فأنت طالق، المفاد أن أي وقت تحقق فيه الخروج يقع الطلاق، فإذا تحقق في وقت وقع، ثم لا يقع بخروج آخر إلا لو أفادت التكرار، وإن مع لفظ أبدا مؤدى لفظ متى بانفراده، فإذا قال: إن تزوجت فلانة أبدا، فهي طالق، فتزوجها، فطلقت، ثم تزوجها ثانيا لا تطلق، كذا أجاب أبو نصر الدبوسي. اهـ.
ولذلك نصوا في باب الطلاق على أن أدوات التعليق، لا تفيد التكرار إلا كلمة (كلما) قال الخطيب الشربيني في الإقناع: ولا تقتضي هذه الأدوات تكرارية في المعلق عليه، بل إذا وجد مرة واحدة في غير نسيان ولا إكراه، انحلت اليمين، ولم يؤثر وجودها ثانيا، إلا في (كلما) فإن التعليق بها يفيد التكرار. اهـ.
قال البجيرمي في حاشيته عليه: قوله: (ولا تقتضي هذه الأدوات ...) ولو قيد بالأبد، كـ (إن خرجت أبدا إلا بإذني، فأنت طالق) فهو على معناه من عدم التكرار. اهـ.
وجاء في الموسوعة الفقهية: أدوات الربط والتعليق هي: إن، وإذا وإذما وكل، وكلما، ومتى، ومتى ما، ونحو ذلك، كلها تفيد التعليق بدون تكرار إلا: كلما، فإنها تفيد التعليق مع التكرار. اهـ.
ثم إن هذه العبارة التي ذكرها السائل خالية من صيغة الشرط وجزائه، وبالتالي يستبعد فيها وقوع لفظ يفيد التكرار، فإن الجزاء مع الشرط هو الذي يفيد التكرار إذا علق بشرط يتكرر وقوعه.
قال الكاساني في بدائع الصنائع: الأصل فيه أن اليمين بالله تعالى متى علقت بشرط متكرر، لا يتكرر انعقادها بتكرر الشرط، واليمين بما هو شرط وجزاء إذا علقت بشرط متكرر تتكرر بتكرار الشرط. اهـ.
وراجع للفائدة، الفتاوى التالية أرقامها: 286450، 256108، 137841.
ونظير ذلك من حلف أن يصوم كل خميس مثلا، ففاته الصوم عدة مرات، لزمته كفارة واحدة، وقياس هذا فيمن نذر أن يصوم كل خميس، فأفطر بعضها، لزمته كفارة واحدة.
قال ابن قدامة في المغني: إن قال: لله علي صوم يوم يقدم فلان أبدا. أو قال: لله علي صوم يوم كل خميس أبدا. لزمه ذلك في المستقبل ... وإن فاتته أيام كثيرة، لزمته كفارة واحدة عن الجميع، فإذا كفر ثم فاته شيء بعد ذلك، لزمته كفارة ثانية. نص عليه أحمد؛ فإنه قال فيمن نذر صيام أيام فمرض: فإن كان قد كفر عن الأول ثم أفطر بعد ذلك، كفر كفارة أخرى، وإن لم يكن كفر عن الأول، فكفارة واحدة، ولا يكون مثل اليمين، إذا حنث وكفر، سقطت عنه. ويتخرج أنه متى كفر مرة، لم تلزمه كفارة أخرى؛ لأن النذر كاليمين، ويشبه اليمين، وإيجاب الكفارة فيه لذلك، واليمين لا يوجب أكثر من كفارة، فمتى كفرها، لم يجب بها أخرى، كذلك النذر. فعلى هذا، متى فاته شيء فكفر عنه، ثم فاته شيء آخر، قضاه من غير كفارة؛ لأن وجوب الكفارة الثانية لا نص فيه، ولا إجماع ولا قياس، فلا يمكن إيجابها بغير دليل. اهـ.
وجاء في كتاب الأصل لمحمد بن الحسن الشيباني: قلت: أرأيت الرجل يجعل لله عليه أن يصوم كل خميس يأتي عليه، فيفطر خميسا واحدا؟ قال: عليه قضاؤه، وكفارة يمين إن كان أراد يمينا. قلت: فإن أفطر خميسا آخر. هل عليه في هذه اليمين الأخرى حنث؟ قال: لا؛ لأنه قد حنث فيها مرة، وكفر فيها يمينه، فلا يحنث فيها ثانية. اهـ.
وعلل ذلك ابن مازة في المحيط البرهاني، فقال: لأنها يمين واحدة حنث فيها مرة، فلا تجب مرة أخرى، فلم تتكرر الكفارة. اهـ.
وكفارة اليمين وما في حكمه، يجوز فعلها قبل الحنث، عند جمهور العلماء، فإذا لم يكفر وحنث، فلا يجوز تأخير الكفارة دون عذر، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 162627، والفتوى رقم: 326848 وما أحيل عليه فيها.
والله أعلم.