الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه، أما بعد:
فإذا جمع المسافر الظهر والعصر تقديما، ثم وصل إلى بلده قبل دخول وقت العصر، فإن جمعه صحيح، ولا يبطل، ولا تلزمه إعادة العصر، وهذا مذهب الحنابلة، والشافعية، والمالكية، بل نص الحنابلة على أن صلاته صحيحة، ولو قصر العصر، قال ابن قدامة في المغني: وإن أتم الصلاتين في وقت الأولى، ثم زال العذر بعد فراغه منهما قبل دخول وقت الثانية، أجزأته، ولم تلزمه الثانية في وقتها؛ لأن الصلاة وقعت صحيحة مجزية عما في ذمته، وبرئت ذمته منها، فلم تشتغل الذمة بها بعد ذلك، ولأنه أدى فرضه حال العذر، فلم يبطل بزواله بعد ذلك، كالمتيمم إذا وجد الماء بعد فراغه من الصلاة. اهـ.
وقال المرداوي الحنبلي: لو قصر الصلاتين في السفر في وقت أولاهما، ثم قدم قبل دخول وقت الثانية: أجزأه، على الصحيح من المذهب، وقيل: لا يجزئه .. اهـ.
والشافعية نصوا على صحة الجمع، وعدم بطلانه بصيرورته مقيما بعد الفراغ من الثانية، بل لو أقام في أثناء الصلاة الثانية بأن وصلت السفينة لبلده، فإن صلاته صحيحة، من غير تفريق عندهم بين أن يصير مقيما قبل دخول وقت الثانية، أو بعد دخول وقتها، وإنما المعتبر في الصحة أن يصير مقيما بعد الفراغ من الصلاة الثانية، قال الإمام النووي في روضة الطالبين: فلو صار مقيما في أثناء الثانية، فوجهان: أحدهما: يبطل الجمع ... وأصحهما: لا يبطل الجمع؛ صيانة لها عن البطلان بعد الانعقاد، ... أما إذا صار مقيما بعد الفراغ من الثانية، فإن قلنا: الإقامة في أثنائها لا تؤثر، فهنا أولى، وإلا فوجهان. الأصح: لا يبطل الجمع، كما لو قصر ثم أقام .. اهـ.
وفي نهاية المحتاج للرملي الشافعي: وإذا صار مقيما في الثانية، ومثلها إذا صار مقيما بعدها، لا يبطل الجمع في الأصح؛ للاكتفاء باقتران العذر بأول الثانية؛ صيانة لها عن بطلانها بعد انعقادها، وإنما منعت الإقامة في أثنائها جواز القصر لمنافاتها له، بخلاف جنس الجمع لجوازه بالمطر، وإذا تقرر هذا في أثنائها، فبعد الفراغ منها بطريق الأولى؛ ولهذا كان الخلاف فيه أضعف، ومقابل الأصح: البطلان، قياسا على القصر. اهـ.
والمالكية يرون أن من ينوي النزول في الوقت المختار للثانية (العصر)، أخرها، ولا يحق له أن يجمعها مع الظهر تقديما، ولكنه لو قدمها، أجزأته، وتندب له إعادتها في الوقت فقط، جاء في منح الجليل: وإن نوى الارتحال والنزول قبل الاصفرار، صلى الظهر قبل ارتحاله، وأخر العصر وجوبا ليصليها في مختارها، فإن قدمها مع الظهر، صحت، وندبت إعادتها في مختارها بعد نزوله .. اهـ.
والحنفية ليس عندهم جمع في السفر أصلا، والجمع عندهم بعرفة ومزدلفة فقط، جاء في الموسوعة الفقهية: فعند الحنفية يجمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر بعرفة، وبين المغرب والعشاء في وقت العشاء بمزدلفة، فمسوغ الجمع عندهم هو الحج فقط، ولا يجوز عندهم الجمع لأي عذر آخر، كالسفر، والمطر. اهـ.
هذا خلاصة أقوال المذاهب الفقهية فيما سألت عنه.
وأما ما نقلته عن الشيخ الشنقيطي -حفظه الله تعالى- في شرح الزاد، فقد اطلعنا على كلامه، وقد نسب إلى جمهور الفقهاء عدم صحة الجمع المذكور، معللا ذلك بأن من شرط الجمع عندهم استمرار العذر إلى دخول وقت الثانية، فقد سئل -حفظه الله تعالى- من جمع صلاتي الظهر والعصر جمع تقديم، ثم وصل إلى بلده قبل دخول وقت العصر، فهل عليه الإعادة؟
فأجاب بقوله -حفظه الله تعالى-: الجمهور على أن من جمع، ثم رجع إلى بلده قبل دخول وقت الثانية، فيجب عليه أن يعيد الصلاة؛ ذلك لأنه يشترط في صحة جمع الصلاة الثانية في وقت الأولى أن يدخل وقت الثانية وهو مسافر، فإذا دخل عليه وهو مقيم، فقد خاطبه الله بأربع ركعات؛ لأنه إذا أذن عليه الأذان، فقد خاطبه الله بأربع ركعات، وهو قد صلى ركعتين، ومن هنا تجب عليه الإعادة، ولا يستبيح بهذا الوجه الرخصة، ومن هنا قال العلماء: ويشترط في جمع التقديم أن يستمر عذر الجمع -الذي هو السفر- إلى دخول وقت الصلاة الثانية، بأن يدخل وقت الثانية، وهو مسافر ... انتهى كلامه.
والذي يظهر لنا أن هذا الكلام غير صحيح، فقد نقلنا لك أقوال الحنابلة، والشافعية، والمالكية.
وأما اشتراط استمرار العذر إلى دخول وقت الثانية؛ فهذا يشترطونه للجمع بين الصلاتين في وقت الثانية، وليس للجمع بين الصلاتين في وقت الأولى، قال صاحب الزاد: وإن جمع في وقت الثانية، اشترط نية الجمع في وقت الأولى ... واستمرار العذر إلى دخول وقت الثانية .. اهـ.
فالمسافر إذا نوى جمع الظهر والعصر تأخيرا في وقت العصر، ثم قدم إلى بلده قبل دخول وقت العصر، وجب عليه أن يصلي الظهر، ولا يصح أن يؤخرها للعصر؛ لأن عذر السفر انقطع، فكلام الشيخ -حفظه الله تعالى- نظن أن فيه شيئا من عدم الدقة، والكمال لله تعالى، والخطأ وارد على كل أحد.
والله تعالى أعلم.