الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالظاهر من كون الصدمة الأولى كانت على ممر المشاة، أنه قد وقع تفريط من السائق، ومن ثم؛ فإنه يتحمل نتيجة تفريطه.
وأما بالنسبة لحصول صدمتين لهذه الفتاة، فحكم ذلك يختلف باعتبار اشتراك الصدمتين في إحداث الوفاة، أو انفراد إحداهما بذلك، وكذلك باعتبار هل كلتا الصدمتين قاتلة في ذاتها، لو انفردت، أم إحداهما كانت كذلك دون الأخرى؟
فلو كان الأمر كذلك، فصاحب الصدمة القاتلة هو الذي يتحمل نتيجة القتل من الكفارة، والدية على عاقلته.
أما لو كانت كلتاهما قاتلة لو انفردت، فإن اجتمعا في وقت واحد، فعلى كل من السائقين الكفارة، ويشتركان في الدية مناصفة على عواقلهم.
وإن تتابعا، فالجناية معلقة بفعل الأول منهما، لأن إصابته تقتل إذا انفردت.
وأما لو كان القتل لا يترتب على أي من الصدمتين لو انفردت، وإنما كان القتل بسبب اجتماعهما؛ فحينئذ يشترك السائقان في الدية، بقدر نسبة اشتراكه في الحادث ... فهذه خلاصة النظر الفقهي في المسألة، وراجع في ذلك الفتويين: 386365، 118402.
قال ابن قدامة في المغني: إذا جنى عليه اثنان جنايتين، نظرنا: فإن كانت الأولى أخرجته من حكم الحياة، مثل قطع حشوته، أي: ما في بطنه، وإبانتها منه، أو ذبحه، ثم ضرب عنقه الثاني: فالأول هو القاتل؛ لأنه لا يبقى مع جنايته حياة، والقود عليه خاصة، وعلى الثاني التعزير، كما لو جنى على ميت.
وإن عفا الولي إلى الدية، فهي على الأول وحده.
وإن كان جرح الأول يجوز بقاء الحياة معه، مثل شق البطن، من غير إبانة الحشوة، أو قطع طرف، ثم ضرب عنقه آخر، فالثاني هو القاتل؛ لأنه لم يخرج الأول من حكم الحياة، فيكون الثاني هو المفوت لها، فعليه القصاص في النفس، والدية كاملة، إن عفا عنه ...
ولو كان جرح الأول يفضي إلى الموت لا محالة، إلا أنه لا يخرج به من حكم الحياة، وتبقى معه الحياة المستقرة، مثل خرق المعى، أو أم الدماغ، فضرب الثاني عنقه، فالقاتل هو الثاني؛ لأنه فوت حياة مستقرة. وقيل: هو في حكم الحياة، بدليل أن عمر لما جرح، دخل عليه الطبيب، فسقاه لبنا، فخرج يصلد، فعلم الطبيب أنه ميت، فقال: اعهد إلى الناس، فعهد إليهم، وأوصى، وجعل الخلافة إلى أهل الشورى، فقبل الصحابة عهده، وأجمعوا على قبول وصاياه، وعهده، فلما كان حكم الحياة باقيا، كان الثاني مفوتا لها، فكان هو القاتل، كما لو قتل عليلا لا يرجى برء علته. اهـ.
وقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا مفصلا عن حوادث السيارات، وبيان ما يترتب عليها بالنسبة لحق الله، وحق عباده، تناول عدة موضوعات، منها: توزيع الجزاء على من اشتركوا في وقوع الحادث بنسبة اعتدائهم، أو خطئهم، ومما جاء فيه قولهم:
بناء على ما تقدم من أقوال الفقهاء في مسائل هذا الموضوع، وما بنيت عليه من العلل، أو اندرجت تحته من القواعد الشرعية، يمكن أن يخرج توزيع المسؤولية في حوادث السيارات على الطريقة الآتية:
أولا: إذا صدمت سيارة إنسانا عمدا، أو خطأ، فرمته إلى جانب، وأصابته سيارة أخرى مارة في نفس الوقت، فمات:
أ - فإن كانت إصابة كل منهما تقتله لو انفردت، وجب القصاص منهما له، أو الدية عليهما مناصفة، على ما تقدم من الخلاف، والشروط في مسألة اشتراك جماعة في قتل إنسان، سواء تساوت الإصابتان، أو كانت إحداهما أبلغ من الأخرى ما دامت الدنيا منهما لو انفرد، قتلت.
ب - وإن تتابعت الإصابتان، وكانت الأولى منهما تقتل، وجب القصاص، أو الدية على سائق الأولى، ويعزر سائق الثانية، وإن كانت الأولى لا تقتل، ومات بإصابة الثانية، فالقصاص، أو الدية على سائق الثانية، ويجب على سائق الأولى جزاء ما أصاب من قصاص، أو دية، أو حكومة ... اهـ.
ويمكن الرجوع للبحث بطوله في العدد (26) من مجلة البحوث الإسلامية.
وأما تنزيل هذه الأحكام على الواقع، وتطبيقه على حوادث الأعيان، فيرجع فيه إلى الأمناء من أهل الخبرة، والاختصاص.
والله أعلم.