الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا يخفى مع أدنى تأمل في آيات سورة المائدة، أن السؤال لم يكن عن وقوع الشرك في أمة عيسى -عليه السلام-! وإنما السؤال كان: هل أمرتهم أنت بهذا الشرك؟ والفرق بينهما واضح.
وعلى حد تعبير هذا القائل بالمفاجأة، فلم يتفاجأ عيسى -عليه السلام- من وقوع الشرك، وإنما من السؤال الموجه إليه: هل أنت من أمرتهم بهذا الشرك؟ هذا أولا.
وثانيا: وقت هذا السؤال ومحله، وقع فيه خلاف بين المفسرين: هل وقع في الدنيا بعد رفع المسيح إلى السماء، أم سيقع يوم القيامة؟
وقد ذكر شيخ المفسرين أبو جعفر الطبري القولين في تفسيره، وأسند كل قول إلى قائله، ثم قال: وأولى القولين عندنا بالصواب في ذلك، قول من قال بقول السدي، وهو أن الله -تعالى ذكره- قال ذلك لعيسى حين رفعه إليه، وأن الخبر خبر عما مضى، لعلتين:
إحداهما: أن "إذ" إنما تصاحب -في الأغلب من كلام العرب المستعمل بينها- الماضي من الفعل، وإن كانت قد تدخلها أحيانا في موضع الخبر عما يحدث، إذا عرف السامعون معناها، وذلك غير فاش، ولا فصيح في كلامهم، وتوجيه معاني كلام الله تعالى إلى الأشهر الأعرف ما وجد إليه السبيل، أولى من توجيهها إلى الأجهل الأنكر.
والأخرى: أن عيسى لم يشك هو، ولا أحد من الأنبياء، أن الله لا يغفر لمشرك مات على شركه، فيجوز أن يتوهم على عيسى أن يقول في الآخرة مجيبا لربه -تعالى ذكره-: إن تعذب من اتخذني وأمي إلهين من دونك، فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم، فإنك أنت العزيز الحكيم. اهـ.
وعلى هذا القول الذي اختاره ابن جرير الطبري، ورجحه، يزول الإشكال من أصله؛ لأن ذلك يكون قد وقع بالفعل، وأما نزول المسيح، فإنما يكون قرب قيام الساعة.
وثالثا: الوفاة في قوله تعالى: وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم [المائدة: 117]، معناها عند جمهور المفسرين: رفعه إلى السماء، وليس موته، وهذا هو الذي اختار الجلال المحلي في تفسيره المختصر، فقال: {فلما توفيتني} قبضتني بالرفع إلى السماء. اهـ. وقال البيضاوي في أنوار التنزيل: {كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم} أي: رقيبا عليهم، أمنعهم أن يقولوا ذلك ويعتقدوه، أو مشاهدا لأحوالهم من كفر وإيمان. {فلما توفيتني} بالرفع إلى السماء؛ لقوله: {إني متوفيك ورافعك}، والتوفي أخذ الشيء وافيا، والموت نوع منه، قال الله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها}. اهـ. وقال القاسمي في محاسن التأويل: {وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم} أي: رقيبا، أراعي أحوالهم، وأحملهم على العمل بموجب أمرك، ويتأتى لي نهيهم عما أشاهده فيهم مما لا ينبغي، {فلما توفيتني} أي: بالرفع إلى السماء، كما في قوله تعالى: {إني متوفيك ورافعك إلي} [آل عمران: 55]، والتوفي: أخذ الشيء وافيا، والموت نوع منه، قال تعالى: الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها [الزمر:42]، وسبق في قوله تعالى: يا عيسى إني متوفيك في (آل عمران) زيادة إيضاح على ما هنا. اهـ.
وقال أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط: {وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم} أي: رقيبا، كالشاهد على المشهود عليه، أمنعهم من قول ذلك، وأن يتدينوا به، وأتى بصيغة فعيل للمبالغة، كثير الحفظ عليهم، والملازمة لهم، و{ما} ظرفية و{دام} تامة، أي: ما بقيت فيهم، أي: شهيدا في الدنيا. اهـ.
وقال القرطبي في تفسيره: {فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم} قيل: هذا يدل على أن الله عز وجل توفاه قبل أن يرفعه، وليس بشيء؛ لأن الأخبار تظاهرت برفعه، وأنه في السماء حي، وأنه ينزل ويقتل الدجال، على ما يأتي بيانه، وإنما المعنى: فلما رفعتني إلى السماء. اهـ.
وإذا اتضح معنى الآية، فأين فيها ما يتعارض مع نزول المسيح في آخر الزمان؟!
ورابعا: وهو الأهم أن نزول عيسى -عليه السلام- في آخر الزمان، لم يختلف في وقوعه أحد من أهل العلم المعتبرين، وقد قامت عليه الدلائل المتواترة من السنة، قال السفاريني في لوامع الأنوار البهية، في بيان العلامة الثالثة من علامات الساعة العظمى: أن ينزل من السماء السيد المسيح عيسى ابن مريم -عليه السلام-، ونزوله ثابت بالكتاب، والسنة، وإجماع الأمة:
أما الكتاب: فقوله: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} [النساء: 159]، أي: ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وذلك عند نزوله من السماء آخر الزمان؛ حتى تكون الملة واحدة ملة إبراهيم حنيفا مسلما، ونوزع في الاستدلال بهذه الآية الكريمة ...
وأما السنة: ففي الصحيحين، وغيرهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية الحديث. وفي مسلم عنه: والله لينزلن ابن مريم حكما عدلا، فليكسرن الصليب بنحوه. وأخرج مسلم أيضا عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، فينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم: تعال صل بنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه الأمة.
وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة على نزوله، ولم يخالف فيه أحد من أهل الشريعة، وإنما أنكر ذلك الفلاسفة، والملاحدة ممن لا يعتد بخلافه، وقد انعقد إجماع الأمة على أنه ينزل، ويحكم بهذه الشريعة المحمدية. اهـ. وراجع لمزيد الفائدة كتاب: (التصريح بما تواتر في نزول المسيح) للعلامة محمد أنور شاه الكشميري.
وراجع في بيان حقيقة حال صاحب هذه الدعوى الباطلة، الفتاوى: 206872، 222112، 227374.
والله أعلم.