السؤال
ما حكم دراسة لغة الجسد، وتفسيرها؟ فعندما يتكلم الشخص، يستعمل الإيماءات الجسدية، فأقوم بتفسير معناها عن طريق دراسات، وكتب علمية، فهل يجوز ذلك شرعا أم هو جهل وتكهن؟
ما حكم دراسة لغة الجسد، وتفسيرها؟ فعندما يتكلم الشخص، يستعمل الإيماءات الجسدية، فأقوم بتفسير معناها عن طريق دراسات، وكتب علمية، فهل يجوز ذلك شرعا أم هو جهل وتكهن؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن علم لغة الجسد، لا مانع من تعلمه من حيث الأصل، فليس هو من قبيل الكهانة، ونحوها من ضروب الشعوذة، وادعاء علم الغيب، والاعتماد على الأسباب الخفية -كالجن-، بل هو من باب التعامل مع الأسباب الظاهرة، -وهي حركات الجسد-، ومحاولة فهمها، وتحليلها، -وهو قريب من الفراسة الخلقية المعروفة من غابر الزمان-، قال ابن القيم: الفراسة الثالثة: الفراسة الخلقية، وهي التي صنف فيها الأطباء، وغيرهم، واستدلوا بالخلق على الخلق؛ لما بينهما من الارتباط الذي اقتضته حكمة الله، كالاستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل. وبكبره، وبسعة الصدر، وبعد ما بين جانبيه، على سعة خلق صاحبه، واحتماله، وبسطته. وبضيقه على ضيقه. وبخمود العين، وكلال نظرها، على بلادة صاحبها، وضعف حرارة قلبه. وبشدة بياضها مع إشرابه بحمرة - وهو الشكل -، على شجاعته، وإقدامه، وفطنته. وبتدويرها مع حمرتها، وكثرة تقلبها، على خيانته، ومكره، وخداعه.
ومعظم تعلق الفراسة بالعين؛ فإنها مرآة القلب، وعنوان ما فيه، ثم باللسان؛ فإنه رسوله، وترجمانه. وبالاستدلال بزرقتها، مع شقرة صاحبها، على رداءته. وبالوحشة التي ترى عليها، على سوء داخله، وفساد طويته.
وكالاستدلال بإفراط الشعر في السبوطة، على البلادة. وبإفراطه في الجعودة، على الشر. وباعتداله، على اعتدال صاحبه.
وأصل هذه الفراسة: أن اعتدال الخلقة، والصورة، هو من اعتدال المزاج، والروح. وعن اعتدالها يكون اعتدال الأخلاق، والأفعال. وبحسب انحراف الخلقة، والصورة عن الاعتدال، يقع الانحراف في الأخلاق، والأعمال. هذا إذا خليت النفس وطبيعتها.
ولكن صاحب الصورة، والخلقة المعتدلة، يكتسب بالمقارنة، والمعاشرة أخلاق من يقارنه، ويعاشره، ولو أنه من الحيوان البهيم، فيصير من أخبث الناس أخلاقا، وأفعالا، وتعود له تلك طباعا، ويتعذر - أو يتعسر - عليه الانتقال عنها.
وكذلك صاحب الخلقة، والصورة المنحرفة عن الاعتدال، يكتسب بصحبة الكاملين بخلطتهم أخلاقا وأفعالا شريفة، تصير له كالطبيعة، فإن العوائد، والمزاولات، تعطي الملكات، والأخلاق.
فليتأمل هذا الموضع، ولا يعجل بالقضاء بالفراسة دونه، فإن القاضي حينئذ يكون خطؤه كثيرا، فإن هذه العلامات أسباب لا موجبة، وقد تتخلف عنها أحكامها؛ لفوات شرط، أو لوجود مانع.
وفراسة المتفرس تتعلق بثلاثة أشياء: بعينه، وأذنه، وقلبه. فعينه للسيماء، والعلامات. وأذنه: للكلام، وتصريحه، وتعريضه، ومنطوقه، ومفهومه، وفحواه، وإشارته، ولحنه، وإيمانه، ونحو ذلك. وقلبه للعبور، والاستدلال من المنظور والمسموع إلى باطنه وخفيه، فيعبر إلى ما وراء ظاهره، كعبور النقاد من ظاهر النقش والسكة إلى باطن النقد، والاطلاع عليه: هل هو صحيح، أو زغل؟ وكذلك عبور المتفرس من ظاهر الهيئة والدل، إلى باطن الروح والقلب، فنسبة نقده للأرواح من الأشباح، كنسبة نقد الصيرفي ينظر للجوهر من ظاهر السكة والنقد.
وكذلك نقد أهل الحديث، فإنه يمر إسناد ظاهر كالشمس على متن مكذوب، فيخرجه ناقدهم، كما يخرج الصيرفي الزغل من تحت الظاهر من الفضة. وكذلك فراسة التمييز بين الصادق والكاذب في أقواله، وأفعاله، وأحواله.
وللفراسة سببان. أحدهما: جودة ذهن المتفرس، وحدة قلبه، وحسن فطنته.
والثاني: ظهور العلامات، والأدلة على المتفرس فيه، فإذا اجتمع السببان، لم تكد تخطئ للعبد فراسة، وإذا انتفيا، لم تكد تصح له فراسة، وإذا قوي أحدهما وضعف الآخر، كانت فراسته بين بين.
وكان إياس بن معاوية من أعظم الناس فراسة، وله الوقائع المشهورة، وكذلك الشافعي -رحمه الله-، وقيل: إن له فيها تآليف.
ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أمورا عجيبة، وما لم أشاهده منها أعظم، وأعظم، ووقائع فراسته تستدعي سفرا ضخما. اهـ. من مدارج السالكين.
وراجع للفائدة الفتوى: 222949.
والله أعلم.