السؤال
هل يكفر المعين الذي يشك في أن لله صاحبة -تعالى الله عن ذلك- مع العلم أنه لم يسمع بالقرآن، أي أنه ليس مكذبا له.
فهل شكه في ذلك يستلزم تكفيره، أم حتى تقوم عليه الحجة؟
وجزاكم الله خيرا، أرجو الرد سريعا.
هل يكفر المعين الذي يشك في أن لله صاحبة -تعالى الله عن ذلك- مع العلم أنه لم يسمع بالقرآن، أي أنه ليس مكذبا له.
فهل شكه في ذلك يستلزم تكفيره، أم حتى تقوم عليه الحجة؟
وجزاكم الله خيرا، أرجو الرد سريعا.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا ندري كيف يكون المرء مسلما وهو لم يسمع بالقرآن! اللهم إلا إن كان قصد السائلة أنه يؤمن بالقرآن إجمالا، وأنه كلام الله الحق، ولكن لم يقرأه ولا يعلم ما فيه!!
فإن كان كذلك، فالجواب أن الشك في ذلك كفر بالله تعالى، لكونه انتقاصا وطعنا في وحدانيته وكماله وغناه؛ لأن ذلك يتعارض بالكلية مع اتخاذ الصاحبة، ولذلك قال مؤمنو الجن: وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا [الجن: 3].
قال ابن كثير: أي: تعالى عن اتخاذ الصاحبة والأولاد، أي: قالت الجن: تنزه الرب تعالى جلاله وعظمته، حين أسلموا وآمنوا بالقرآن، عن اتخاذ الصاحبة والولد. اهـ.
وقال الخازن في لباب التأويل: أي أنه تعالى جلال ربنا وعظمته عن أن يتخذ صاحبة أو ولدا؛ لأن الصاحبة تتخذ للحاجة، والولد للاستئناس به، والله تعالى منزه عن كل نقص. اهـ.
وقال السعدي في تفسيره: فعلموا من جد الله وعظمته، ما دلهم على بطلان من يزعم أن له صاحبة أو ولدا؛ لأن له العظمة والكمال في كل صفة كمال، واتخاذ الصاحبة والولد ينافي ذلك؛ لأنه يضاد كمال الغنى. اهـ.
وقال الزمخشري في الكشاف: وذلك أنهم لما سمعوا القرآن ووفقوا للتوحيد والإيمان، تنبهوا على الخطإ فيما اعتقده كفرة الجن من تشبيه الله بخلقه، واتخاذه صاحبة وولدا، فاستعظموه، ونزهوه عنه. اهـ.
وكيف يصح إيمان من لم يجزم بأن الله تعالى لم يتخذ صاحبة ولا ولدا؟! وهذا من أصل عقد القلب.
قال الإمام الشافعي: فرض الإيمان على جوارح بني آدم، فقسمه فيها، وفرقه عليها، فليس من جوارحه جارحة إلا وقد وكلت من الإيمان بغير ما وكلت به أختها بفرض من الله تعالى.
فمنها: قلبه الذي يعقل به ويفقه ويفهم، وهو أمير بدنه الذي لا ترد الجوارح ولا تصدر إلا عن رأيه وأمره. ...
فأما فرض الله على القلب من الإيمان: فالإقرار والمعرفة والعقد، والرضا والتسليم بأن الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ... اهـ. (انظر: مناقب الشافعي للبيهقي، تفسير الإمام الشافعي).
ولا يخفى أن الإيمان بالله تعالى ووحدانيته وكماله، هو أصل الدين وأساسه، ولا يصح الإيمان إلا مع القطع واليقين، ولذلك كان الشك نوعا من أنواع الكفر الأكبر، وراجع في ذلك الفتويين: 38537، 254647.
وأما مسألة قيام الحجة! فهذا إنما يطلب في ما لا يعلم من الدين بالضرورة مما يمكن العذر فيه بالجهل.
أما مثل هذه المسألة -نعني وحدانية الله تعالى وعدم اتخاذه صاحبة- فلا عذر فيها بالجهل، ولا يتوقف الكفر فيها على قيام الحجة.
قال الإمام ابن جرير الطبري في كتاب (التبصير في معالم الدين): لن يعدو جميع أمور الدين الذي امتحن الله به عباده، معنيين:
أحدهما: توحيد الله وعدله.
والآخر: شرائعه التي شرعها لخلقه من حلال وحرام، وأقضية وأحكام.
فأما توحيده وعدله: فمدركة حقيقة، علمه استدلالا بما أدركته الحواس. وأما شرائعه فمدركة حقيقة، علم بعضها حسا بالسمع، وعلم بعضها استدلالا بما أدركته حاسة السمع. ثم القول فيما أدركت حقيقة علمه منه استدلالا على وجهين:
أحدهما: معذور فيه بالخطأ والمخطئ ... وذلك الخطأ فيما كانت الأدلة على الصحيح من القول فيه مختلفة غير مؤتلفة، والأصول في الدلالة عليه مفترقة غير متفقة، وإن كان لا يخلو من دليل على الصحيح من القول فيه، فميز بينه وبين السقيم منه، غير أنه يغمض بعضه غموضا يخفى على كثير من طلابه، ويلتبس على كثير من بغاته.
والآخر منهما: غير معذور بالخطأ فيه، مكلف قد بلغ حد الأمر والنهي، ومكفر بالجهل به الجاهل، وذلك ما كانت الأدلة الدالة على صحته متفقة غير مفترقة، ومؤتلفة غير مختلفة، وهي مع ذلك ظاهرة للحواس
- إلى أن قال: - أما الذي لا يجوز الجهل به من دين الله لمن كان في قلبه من أهل التكليف؛ لوجود الأدلة متفقة في الدلالة عليه غير مختلفة ظاهرة للحس غير خفية: فتوحيد الله تعالى ذكره، والعلم بأسمائه وصفاته وعدله، وذلك أن كل من بلغ حد التكليف من أهل الصحة والسلامة، فلن يعدم دليلا دالا وبرهانا واضحا يدله على وحدانية ربه جل ثناؤه، ويوضح له حقيقة صحة ذلك؛ ولذلك لم يعذر الله جل ذكره أحدا كان بالصفة التي وصفت بالجهل وبأسمائه، وألحقه إن مات على الجهل به بمنازل أهل العناد فيه تعالى ذكره، والخلاف عليه بعد العلم به، وبربوبيته في أحكام الدنيا، وعذاب الآخرة، فقال جل ثناؤه: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا}. فسوى جل ثناؤه بين هذا العامل في غير ما يرضيه على حسبانه أنه في عمله عامل بما يرضيه، في تسميته في الدنيا بأسماء أعدائه المعاندين له، الجاحدين ربوبيته مع علمهم بأنه ربهم، وألحقه بهم في الآخرة في العقاب والعذاب. وذلك لما وصفنا من استواء حال المجتهد المخطئ في وحدانيته وأسمائه وصفاته وعدله، وحال المعاند في ذلك في ظهور الأدلة الدالة المتفقة غير المفترقة لحواسهما، فلما استويا في قطع الله -جل وعز- عذرهما بما أظهر لحواسهما من الأدلة والحجج، وجبت التسوية بينهما في العذاب والعقاب. اهـ.
ثم قال بعد ذلك: وإذا كان صحيحا ما قلنا بالذي عليه استشهدنا، فواجب أن يكون كل من بلغ حد التكليف من الذكور والإناث، وذلك قبل أن يحتلم الغلام أو يبلغ حد الاحتلام، وأن تحيض الجارية أو تبلغ حد المحيض - فلم يعرف صانعه بأسمائه وصفاته التي تدرك بالأدلة بعد بلوغه الحد الذي حددت: فهو كافر. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - كما في مجموع الفتاوى- : وهذا إذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال: إنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها؛ لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي تعلم العامة والخاصة من المسلمين أنها من دين المسلمين؛ بل اليهود والنصارى يعلمون: أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بها وكفر مخالفها؛ مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له ... اهـ.
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - كما في فتاوى ورسائل- : الذين توقفوا في تكفير المعين في الأشياء التي قد يخفى دليلها، فلا يكفر حتى تقوم عليه الحجة الرسالية من حيث الثبوت والدلالة. فإذا أوضحت له الحجة بالبيان الكافي كفر ...
وأما ما علم بالضرورة أن الرسول جاء به وخالفه، فهذا يكفر بمجرد ذلك، ولا يحتاج إلى تعريف .. اهـ.
وأما قيام الحجة على غير المسلم فتحصل إذا بلغته دعوة الإسلام بطريقة يتمكن من فهمها، لا يحول بينه وبينها حائل.