السؤال
قال تعالى: "ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين" {البقرة:65}، لماذا مسخوا على صورة القردة والخنازير دون ما سواهما من الحيوانات؟
قال تعالى: "ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين" {البقرة:65}، لماذا مسخوا على صورة القردة والخنازير دون ما سواهما من الحيوانات؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فاعلم أولا أن الصحيح الذي عليه الجمهور هو أن هذا المسخ حقيقي، وأن أجسامهم صارت أجسام قردة، خلافا لمجاهد -رحمه الله-.
وإنما مسخوا قردة؛ لما أن القردة أشبه شيء بالإنسان، فلما كانت صورتهم صورة الإنسان، وتصرفهم تصرف العجماوات، مسخوا في مسلاخ تلك العجماوات، قال العلامة الطاهر ابن عاشور -رحمه الله-: وقوله: فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين. كونوا أمر تكوين، والقردة- بكسر القاف وفتح الراء- جمع قرد، وتكوينهم قردة:
يحتمل أن يكون بتصيير أجسامهم أجسام قردة مع بقاء الإدراك الإنساني، وهذا قول جمهور العلماء والمفسرين.
ويحتمل أن يكون بتصيير عقولهم كعقول القردة مع بقاء الهيكل الإنساني، وهذا قول مجاهد.
والعبرة حاصلة على كلا الاعتبارين، والأول أظهر في العبرة؛ لأن فيه اعتبارهم بأنفسهم، واعتبار الناس بهم، بخلاف الثاني، والثاني أقرب للتاريخ؛ إذ لم ينقل مسخ في كتب تاريخ العبرانيين، والقدرة صالحة للأمرين، والكل معجزة للشريعة، أو لداود. ولذلك قال الفخر: ليس قول مجاهد ببعيد جدا، لكنه خلاف الظاهر من الآية، وليس الآية صريحة في المسخ.
ومعنى كونهم قردة: أنهم لما لم يتلقوا الشريعة بفهم مقاصدها، ومعانيها، وأخذوا بصورة الألفاظ، فقد أشبهوا العجماوات في وقوفها عند المحسوسات، فلم يتميزوا عن العجماوات إلا بالشكل الإنساني، وهذه القردة تشاركهم في هذا الشبه، وهذا معنى قول مجاهد هو مسخ قلوب، لا مسخ ذوات. انتهى.
وأما مسخهم خنازير، ففيه من الشناعة ما لا يخفى، لقبح هيئة الخنزير، وكونه من شر الحيوان، وقد وقع مسخهم خنازير، أو مسخ بعضهم كذلك، قال الألوسي: وجعل منهم القردة والخنازير، أي: مسخ بعضهم قردة- وهم أصحاب السبت- وبعضهم خنازير- وهم كفار مائدة عيسى عليه الصلاة والسلام-. وعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أن المسخين كانا في أصحاب السبت، مسخت شبانهم قردة، وشيوخهم خنازير. انتهى.
وقال صاحب المنار في حكمة مسخهم قردة وخنازير: أباح الله تعالى لبني إسرائيل العمل في ستة أيام من الأسبوع، وحظر عليهم العمل في يوم واحد، وهو يوم السبت، وفرض عليهم في هذا اليوم الاجتهاد في الأعمال الدينية؛ إحياء للشعور الديني في قلوبهم، وإضعافا لشرههم في جمع الحطام، وحبهم للدنيا، فتجاوز طائفة منهم حدود الله في السبت واعتدوها، فكان جزاؤهم على ذلك جزاء من لم يرض نفسه بآداب الدين، وجزاء مثله هو الخروج من محيط الكمال الإنساني، والرتوع في مراتع البهيمية، كالقرد في نزواته، والخنزير في شهواته. انتهى.
والله أعلم.