تفسير آية: "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ"

0 69

السؤال

قال تعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)، الأعراف (199)، أرجو تفسير هذه الآية بشيء من التفصيل.
وهناك إشكالات متعلقة بفهم الآية: "خذ العفو" هل يتضمن عدم معاقبة من يخطئ علي؟ وما المقصود به؟ وما حده؟ وهل يتضمن أخذ العفو ممن يضرك؟
وإذا كان كذلك، فلماذا آخذ أنا العفو من الناس؟ ولماذا لا يأخذون هم العفو مني وأنا أضرهم؟
"وأعرض عن الجاهلين": السكوت على المخطئ يزيد إساءته، ويجعله يتلقى الإساءات كالحمار، فأرجو التفصيل في الآية بشكل مطول، وكيف نطبقها في الواقع؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

 فأما عن تفسير قوله سبحانه: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين {الأعراف:199}.

فقد جاء في تفسير الألوسي: (خذ العفو) أي: ما عفا، وسهل، وتيسر من أخلاق الناس، وإلى هذا ذهب ابن عمر، وابن الزبير، وعائشة، ومجاهد -رضي الله تعالى عنهم-، وغيرهم، وأخرجه ابن أبي الدنيا عن إبراهيم بن آدم مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والأخذ مجاز عن القبول، والرضى، أي: ارض من الناس بما تيسر من أعمالهم، وما أتى منهم، وتسهل من غير كلفة، ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم؛ حتى لا ينفروا.

* وجوز أن يراد بالعفو: ظاهره، أي: خذ العفو عن المذنبين، والمراد: اعف عنهم، وفيه استعارة مكنية؛ إذ شبه العفو بأمر محسوس يطلب فيؤخذ، وإلى هذا جمع من السلف. ويشهد له ما أخرجه ابن جرير، وابن المنذر، وغيرهما عن الشعبي قال: لما أنزل الله تعالى: "خذ العفو... إلى آخره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا جبريل؟ قال: لا أدري حتى أسأل العالم؟ فذهب ثم رجع، فقال: إن الله تعالى أمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك.

* وعن ابن عباس: المراد بالعفو: ما عفي من أموال الناس، أي: خذ أي شيء أتوك به، وكان هذا قبل فرض الزكاة.

* وقيل: العفو: ما فضل عن النفقة من المال، وبذلك فسره الجوهري، وإليه ذهب السدي. فقد أخرج أبو الشيخ عنه أنه قال: نزلت هذه الآية، فكان الرجل يمسك من ماله ما يكفيه، ويتصدق بالفضل، فنسخها الله تعالى بالزكاة.

(وأمر بالعرف) أي: بالمعروف المستحسن من الأفعال؛ فإن ذلك أقرب إلى قبول الناس من غير نكير.

وفي لباب التأويل: أن المراد: وأمر بكل ما أمرك الله تعالى به، وعرفته بالوحي.

(وأعرض عن الجاهلين) أي: ولا تكافئ السفهاء بمثل سفههم، ولا تمارهم، واحلم عليهم، وأغض بما يسوؤك منهم.

وعن السدي: أن هذا أمر بالكف عن القتال، ثم نسخ بآيته، ولا ضرورة إلى دعوى النسخ في الآية، كما لا يخفى على المتدبر، وقد ذكر غير واحد أنه ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية. اهـ.

 وقال ابن القيم: وقد جمع الله له مكارم الأخلاق في قوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} [الأعراف:199]، قال جعفر بن محمد: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق. وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية.

ولا ريب أن للمطاع مع الناس ثلاثة أحوال:

أحدها: أمرهم ونهيهم بما فيه مصلحتهم.

الثاني: أخذه منهم ما يبذلونه مما عليهم من الطاعة.

الثالث: أن الناس معه قسمان: موافق له موال، ومعاد له معارض. وعليه في كل واحد من هذه واجب.

فواجبه في أمرهم ونهيهم: أن يأمر بالمعروف. وهو المعروف الذي به صلاحهم، وصلاح شأنهم. وينهاهم عن ضده.

وواجبه فيما يبذلونه له من الطاعة: أن يأخذ منهم ما سهل عليهم، وطوعت له به أنفسهم، سماحة واختيارا. ولا يحملهم على العنت، والمشقة، فيفسدهم.

وواجبه عند جهل الجاهلين عليه: الإعراض عنهم، وعدم مقابلتهم بالمثل والانتقام منهم لنفسه.

ثم قال تعالى: {وأمر بالعرف} [الأعراف:199]، وهو كل معروف. وأعرفه: التوحيد، ثم حقوق العبودية وحقوق العبيد.

ثم قال تعالى: {وأعرض عن الجاهلين} [الأعراف:199]، يعني: إذا سفه عليك الجاهل، فلا تقابله بالسفه، كقوله تعالى: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} [الفرقان:63].

وعلى هذا؛ فليست بمنسوخة، بل يعرض عنه مع إقامة حق الله عليه، ولا ينتقم لنفسه، وهكذا كان خلقه صلى الله عليه وسلم. اهـ. باختصار من مدارج السالكين.

 وأما ما أثرته من اعتراضات على استحباب العفو عن المسيء، فذهابه بمعرفة أمرين:

الأول: أن ما ظننته من أن العفو عن المسيء، ودفع الأذى بالإحسان، يوجب الذل والضعف، وأن الانتصار والقصاص خير من العفو بإطلاق، هو ظن باطل، وهو من وسوسة الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء، قال ابن تيمية: وكما أن من توهم أنه بالعفو يسقط حقه، أو ينقص: غالط جاهل ضال؛ بل بالعفو يكون أجره أعظم؛ فكذلك من توهم أنه بالعفو يحصل له ذل، ويحصل للظالم عز واستطالة عليه، فهو غالط في ذلك، كما ثبت في الصحيح، وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ثلاث إن كنت لحالفا عليهن: ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما نقصت صدقة من مال، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله.

فبين الصادق المصدوق: أن الله لا يزيد العبد بالعفو إلا عزا، وأنه لا تنقص صدقة من مال، وأنه ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله. وهذا رد لما يظنه من يتبع الظن، وما تهوى الأنفس من أن العفو يذله، والصدقة تنقص ماله، والتواضع يخفضه. وفي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادما له، ولا امرأة، ولا دابة، ولا شيئا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه قط شيء فانتقم لنفسه؛ إلا أن تنتهك محارم الله، فإذا انتهكت محارم الله، لم يقم لغضبه شيء، حتى ينتقم لله.

وخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن -وهو أكمل الأخلاق-، وقد كان من خلقه أنه لا ينتقم لنفسه، وإذا انتهكت محارم الله، لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله، فيعفو عن حقه، ويستوفي حق ربه. اهـ. من مجموع الفتاوى.

 الثاني: أن العفو عن المسيء وإن كان أفضل وأحب إلى الله من الانتصار والأخذ بالحق، إلا أنه مستحب، وليس بواجب أصلا.

 ثم إن الانتصار قد يكون في أحوال عارضة أفضل من العفو، فإن كان العفو ينجم عنه مفسدة، من زيادة عدوان المسيء، ونحو ذلك، فهو غير مشروع حينئذ، قال ابن تيمية: والرحمة يحصل بها نفع العباد، فعلى العبد أن يقصد الرحمة، والإحسان، والنفع، لكن للاحتياج إلى دفع الظلم، شرعت العقوبات، وعلى المقيم لها أن يقصد بها النفع، والإحسان، كما يقصد الوالد بعقوبة ولده، والطبيب بدواء المريض.

وقد أمر الله في كتابه بالعدل، والإحسان، والأمر يقتضي الوجوب، وقد يكون بعض المأمور به مندوبا، والإحسان المأمور به: ما يمكن اجتماعه مع العدل، فأما ما يرفع العدل، فذاك ظلم، وإن كان فيه نفع لشخص، مثل نفع أحد الشريكين إعطاء أكثر من حقه، ونفع أحد الخصمين بالمحاباة له؛ فإن هذا ظلم، وإن كان فيه نفع قد يسمى إحسانا.

والعدل نوعان:

أحدهما: هو الغاية، والمأمور بها، فليس فوقه شيء هو أفضل منه يؤمر به، وهو العدل بين الناس.

والثاني: ما يكون الإحسان أفضل منه، وهو عدل الإنسان بينه وبين خصمه في الدم، والمال، والعرض، فإن الاستيفاء عدل، والعفو إحسان، والإحسان هنا أفضل.

لكن هذا الإحسان لا يكون إحسانا إلا بعد العدل، كما قدمناه، وهو أن لا يحصل بالعفو ضرر، فإذا حصل منه ضرر، كان ظلما من العافي، إما لنفسه، وإما لغيره، فلا يشرع. اهـ. من جامع المسائل.

وجاء في كتاب بريقة محمودية: لكن قد يكون العدل أفضل من العفو بعارض موجب لذلك؛ مثل كون العفو سببا لتكثير ظلمه؛ لتوهمه أن عدم الانتقام منه للعجز، وكون الانتصار سببا لتقليله، أو هدمه، إذا كان الحق قصاصا مثلا، أو نحو ذلك من العوارض، مثل كونه عبرة للغير. اهـ باختصار.

وقد نقلنا في الفتوى: 325555 كلاما لابن تيمية في غاية النفاسة في بيان ما يعين على الصبر على إساءة الناس، والعفو عنهم، فراجعه.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات