السؤال
هل الأئمة الأربعة حددوا علمهم على أنه مذاهب، أم تحدد ذلك فيما بعد؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة الاجتهاد، هم نتاج المدارس المختلفة للاستدلال، والتي نشأت من زمن الصحابة -رضي الله عنهم- وكلهم كان يقتفي الدليل، ويبحث عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وينصرها.
ولم يدع أحد منهم لنفسه، ولا قام بتأسيس مذهب مستقل، وإنما كانوا يجتهدون بحسب ما أوتوا من علم، ويقررون أحكام الشرع وفق ما ظهر لهم.
فاجتمع لكل منهم أصحاب وأتباع، أخذوا علمه ونشروه في الناس، ومن ثم بدأت في مرحلة لاحقة تتبلور تلك المذاهب.
فالإمام أحمد مثلا، لم يؤلف في الفقه، ولا دعا الناس إلى تقليده، وإنما جاء من بعده وهو الخلال، فجمع ما نقل عنه من مسائل والتي منها تكون مذهب أحمد فيما بعد.
قال ابن القيم: وكان -رضي الله عنه- شديد الكراهة لتصنيف الكتب، وكان يحب تجريد الحديث، ويكره أن يكتب كلامه، ويشتد عليه جدا، فعلم الله حسن نيته وقصده، فكتب من كلامه وفتواه أكثر من ثلاثين سفرا، ومن الله سبحانه علينا بأكثرها فلم يفتنا منها إلا القليل.
وجمع الخلال نصوصه في الجامع الكبير فبلغ نحو عشرين سفرا أو أكثر، ورويت فتاويه ومسائله وحدث بها قرنا بعد قرن، فصارت إماما وقدوة لأهل السنة على اختلاف طبقاتهم، حتى إن المخالفين لمذهبه بالاجتهاد والمقلدين لغيره ليعظمون نصوصه وفتاواه، ويعرفون لها حقها. انتهى.
وهكذا قام أصحاب كل إمام بنشر مذهبه والانتصار له، كما فعل الصاحبان أبو يوسف ومحمد وغيرهما مع أبي حنيفة، وكما فعل ابن القاسم وغيره من أصحاب مالك، وكما فعل الربيع بن سليمان وغيره من أصحاب الشافعي.
ويدلك على هذا، ما تواتر عن الأئمة من النهي عن تقليدهم، والأمر باتباع النصوص، والحث على مخالفة أقوالهم إن ظهرت بخلاف النص. قال ابن القيم رحمه الله: وقد نهى الأئمة الأربعة عن تقليدهم، وذموا من أخذ أقوالهم بغير حجة.
فقال الشافعي: مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل، يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري، ذكره البيهقي.
وقال إسماعيل بن يحيى المزني في أول مختصره: اختصرت هذا من علم الشافعي، ومن معنى قوله، لأقربه على من أراده، مع إعلامية نهيه عن تقليده وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه.
وقال أبو داود: قلت لأحمد: الأوزاعي هو أتبع من مالك؟ قال: لا تقلد دينك أحدا من هؤلاء، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به، ثم التابعي بعد الرجل فيه مخير. انتهى.
وله تتمة سابغة، وننصحك بقراءة شيء في تاريخ التشريع الإسلامي؛ ككتاب تاريخ التشريع الإسلامي للأشقر؛ ليتكون لديك تصور كاف عن طريق نشأة المذاهب وتطورها حتى صارت إلى ما استقرت عليه الآن.
والله أعلم.