السؤال
هل يجوز أن يترك المصلي مسافة متر بينه وبين باقي المصلين، في صلاة الجماعة بالمسجد، إذا خاف من العدوى المنتشرة بفيروس كورونا المنتشر، أم لا يجوز ذلك؟
هل يجوز أن يترك المصلي مسافة متر بينه وبين باقي المصلين، في صلاة الجماعة بالمسجد، إذا خاف من العدوى المنتشرة بفيروس كورونا المنتشر، أم لا يجوز ذلك؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإذا كان في أداء صلاة الجماعة بالتباعد المذكور وقاية من العدوى حسبما يقرر أهل الاختصاص، فلا حرج في ذلك التباعد خشية انتقال العدوى.
وبيان ذلك أن تسوية الصفوف والتراص فيها، وعدم ترك فرجة بين المصلين، مأمور به، ومرغب فيه شرعا ترغيبا كبيرا. ولكن هذا الأمر على الاستحباب، وليس على الوجوب عند عامة العلماء من أصحاب المذاهب الأربعة المتبوعة وغيرها.
جاء في طرح التثريب، في شرح التقريب للعراقي: (أقيموا الصف في الصلاة) هذا الأمر للاستحباب، بدليل قوله في تعليله: فإن إقامة الصف من حسن الصلاة.
قال ابن بطال: هذا يدل على أن إقامة الصفوف سنة؛ لأنه لو كان فرضا لم يجعله من حسن الصلاة؛ لأن حسن الشيء زيادة على تمامه، وذلك زيادة على الوجوب ...
وهذا مذهب جمهور العلماء من السلف والخلف، وهو قول الأئمة الأربعة.
وذهب ابن حزم الظاهري إلى وجوبه. اهـ.
وانظر الفتوى: 24029.
فترك هذا الأمر المستحب خشية انتقال العدوى، لا إشكال فيه للحاجة، وشبيه بهذا مسألة الصلاة بين السواري للحاجة. فالصلاة بين السواري مكروهة؛ لكونها تقطع اتصال الصفوف، ومع ذلك فقد نص العلماء على أن الكراهة تزول للحاجة.
جاء في كشاف القناع عن متن الإقناع: (ويكره للمأمومين الوقوف بين السواري، إذا قطعت صفوفهم عرفا) رواه البيهقي عن ابن مسعود، وعن معاوية بن قرة عن أبيه قال: كنا ننهى أن نصف بين السواري على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ونطرد عنها طردا رواه ابن ماجه، وفيه لين. وقال أنس: كنا نتقي هذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. رواه أحمد وأبو داود وإسناده ثقات. قال أحمد؛ لأنه يقطع الصف. قال بعضهم: فتكون سارية عرضها مقام ثلاثة (بلا حاجة) فإن كان ثم حاجة كضيق المسجد وكثرة الجماعة، لم يكره. اهـ.
والحنابلة الذين يرون بطلان صلاة المنفرد خلف الصف، هم أكثر من اطلعنا لهم على كلام مفصل في صور انقطاع الصف وما يؤثر منها وما لا يؤثر.
قال الرحيباني في مطالب أولي النهى، في شرح غاية المنتهى: (ولا تبطل) الصلاة (بقطع صف مطلقا)، أي: سواء كان وراء الإمام أو عن يمينه (إلا) أن يكون قطع الصف (عن يساره)، أي: الإمام (إذا بعد) المنقطع (بقدر مقام ثلاثة رجال)؛ فتبطل صلاته. قاله ابن حامد، وجزم به في الرعاية الكبرى (ويتجه: أن المراد) ببطلان صلاة صف انقطع عن يسار الإمام بقدر مقام ثلاثة رجال (ما لم تنو)، أي: ما لم تنو الطائفة المنقطعة (مفارقة) الإمام، فإن نوت مفارقته؛ صحت، أو اتصل الصف. أو أمكن انتقالها إلى غيره من غير عمل كثير؛ صحت، وهذا متجه. (و) يتجه أيضا: (أنه من بعد عن الصف) مع محاذاته له، وكان بعده عنه (قدر ذلك)، أي: مقام ثلاثة رجال (ففذ)، أي: فرد لا تصح صلاته. وهذا ليس بوجيه، إذ قد تقدم أنه لا بأس بقطع الصف خلف الإمام، وعن يمينه، وهو يشمل الواحد والجماعة. اهـ.
وقال عثمان النجدي في حاشيته على المنتهى: اعلم أن وقوف المأموم مع الإمام على ثلاثة أحوال: تارة يكون خلفه، وتارة يكون يمينه، وتارة يكون يساره. ولا يكون قدامه على الصحيح إلا إذا تقابلا داخل الكعبة، وإذا علمت ذلك؛ فانقطاع الصف بوقوع فرجة فيه: تارة يكون بقدر مقام ثلاثة رجال فأكثر، وتارة يكون أقل. والمنقطع: تارة يكون واحدا، وتارة يكون متعددا.
فهذه اثنتا عشرة صورة، عشر منها صحيحة، واثنتان تبطل فيهما صلاة المنقطع، وهما: ما إذا كان القطع في صف وقف بجنب الإمام عن يساره، وكانت الفرجة بقدر مقام ثلاثة فأكثر، فإنها تبطل صلاة المنقطع واحدا أو أكثر. وقد أشار المصنف إلى الصور كلها منطوقا ومفهوما. اهـ.
وحتى على القول بوجوب تسوية الصفوف والتراص، فإن اتقاء العدوى والاحتراز منها من الحاجات المعتبرة التي ينبغي أن يقال بإسقاط وجوب التراص في الصف عند من يقول به؛ لأن الحاجات قد تسوغ ترك الواجبات في الصلاة وفي غيرها من أبواب الشريعة، ومن أمثلة ذلك: صحة صلاة المنفرد خلف الصف، والمتقدم على الإمام في حال العذر عند بعض القائلين بتحريم الانفراد خلف الصف والتقدم على الإمام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: وأما المرأة فإنها تقف وحدها إذا لم يكن هناك امرأة غيرها، فالسنة في حقها الاصطفاف؛ لكن قضية المرأة تدل على شيئين:
تدل على أنه إذا لم يجد خلف الصف من يقوم معه، وتعذر الدخول في الصف، صلى وحده للحاجة، وهذا هو القياس؛ فإن الواجبات تسقط للحاجة، وأمره بأن يصاف غيره من الواجبات، فإذا تعذر ذلك سقط للحاجة؛ كما سقط غير ذلك من فرائض الصلاة للحاجة في مثل صلاة الخوف محافظة على الجماعة.
وطرد ذلك إذا لم يمكنه أن يصلي مع الجماعة إلا قدام الإمام، فإنه يصلي هنا لأجل الحاجة أمامه، وهو قول طوائف من أهل العلم، وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد، وإن كانوا لا يجوزون التقدم على الإمام إذا أمكن ترك التقدم عليه.
وفي الجملة: فليست المصافة أوجب من غيرها، فإذا سقط غيرها للعذر في الجماعة فهي أولى بالسقوط. ومن الأصول الكلية أن المعجوز عنه في الشرع ساقط الوجوب، وأن المضطر إليه بلا معصية غير محظور، فلم يوجب الله ما يعجز عنه العبد، ولم يحرم ما يضطر إليه العبد. اهـ.
وقال أيضا: المرأة وقفت خلف الصف؛ لأنه لم يكن لها من تصافه، ولم يمكنها مصافة الرجال: ولهذا لو كان معها في الصلاة امرأة لكان من حقها أن تقوم معها، وكان حكمها حكم الرجل المنفرد عن صف الرجال.
ونظير ذلك أن لا يجد الرجل موقفا إلا خلف الصف، فهذا فيه نزاع بين المبطلين لصلاة المنفرد، والأظهر صحة صلاته في هذا الموضع؛ لأن جميع واجبات الصلاة تسقط بالعجز.
وطرد هذا صحة صلاة المتقدم على الإمام للحاجة، كقول طائفة، وهو قول في مذهب أحمد.
وإذا كان القيام والقراءة وإتمام الركوع والسجود، والطهارة بالماء، وغير ذلك يسقط بالعجز. فكذلك الاصطفاف وترك التقدم.
وطرد هذا بقية مسائل الصفوف، كمسألة من صلى ولم ير الإمام، ولا من وراءه، مع سماعه للتكبير وغير ذلك. اهـ. من مجموع الفتاوى.
والخلاصة أن الصلاة مع تباعد المصلين في الصف صحيحة، ولو لم تكن هناك حاجة للتباعد، فكيف إذا كانت هناك حاجة معتبرة كالاحتراز من فشو العدوى بين المسلمين؟
والله أعلم.