السؤال
هنالك ما أود أن أستفسر عنه حول مسألة خلق السماء قبل الأرض، وقول العلماء الذين قالوا إن السماء خلقت قبل الأرض بتأويل الآيات،
وذلك بالطبع ما هو مطابق للعلم الحديث، فلا يمكن بتاتا أن تكون الأرض خلقت من قبل، وهذا ما رأيته في فتوى لكم.
والأمر هو نحن اعتبرنا أن في آيات سورة النازعات أن السماء كانت قبل خلق الأرض وما فيها. وهي: "أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها، رفع سمكها فسواها...... والأرض بعد ذلك دحاها".
فهنا اعتبرنا أن السماء أولا، ثم وجدت الأرض. ولكن كيف نفسر آية "رفع سمكها فسواها" مع هذا التأويل؟
يعني كيف سيرفع الله سمك السماء عن الأرض، والأرض أصلا غير موجودة؟
يعني الله عز وجل يقول إنه رفع سمك السماء وسواها، وعن من سيرفعها؟ بالتأكيد عن الأرض، فكيف ستكون مرفوعة عن الأرض، والأرض غير موجودة بعد؟
وباعتبار أن الأرض غير موجودة، كيف أطلق على السماء أنه رفع سمكها عن شيء غير موجود بعد؟
وكذلك الأمر بالنسبة للآيات الأخرى. مثلا "والسماء رفعها ووضع الميزان"
ألا تستوجب هذه الآيات أن السماء رفعت عن الأرض بعد أن وجدت الأرض، وأن السماء خلقت ورفعت عن الأرض بعد خلق الأرض؟
وإن كان الأمر كذلك، فكيف نوفق بين العلم الحديث، وبين آيات القرآن؟ وهل تدلنا هذه الآيات على خلق الأرض قبل السماء؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقبل الجواب نود التأكيد على أن مسألة الترتيب الزمني في خلق السموات والأرض من مسائل الخلاف الشديد، ومن القضايا المشكلة، ومع ذلك فليس للخوض في تفاصيلها كبير ثمرة.
قال الشهاب في حاشيته على البيضاوي: اعلم أن خلق السماء وما فيها، والأرض وما فيها باعتبار التقدم والتأخر وردت آيات فيه وأحاديث متعارضة، ولم تزل الناس من عهد الصحابة إلى الآن تستصعب ذلك، وتوفق بينها، ولهم في التوفيق طرق شتى. اهـ. وهو ممن أطال النفس في الكلام على المسألة.
ولتراجع السائلة -إن شاءت- كلام الدكتور منقذ السقار في كتابه (تنزيه القرآن الكريم عن دعاوى المبطلين) حيث ذكر في الإشكال الثالث: أيهما خلق أولا، السماوات أم الأرض؟
وكذلك نود لفت النظر إلى أن العلم الحديث لا يدل دلالة قاطعة على ترتيب أو كيفية معينة لبداية الخلق، وإنما هي نظريات علمية قابلة للنقد والنقض، ولا يصح أن تعارض دلالة النصوص الشرعية بمثل ذلك، فقد قال الله تعالى: ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم [الكهف: 51] ومعناه: ما أشهدتهم خلقها فيحيطون علما بغيبها، لاختصاص الله بعلم الغيب دون خلقه. كما ذكره الماوردي احتمالا في تفسيره النكت والعيون.
وأما ما استشكلته السائلة على القول بأن خلق السموات كان قبل خلق الأرض، فليس بمشكل، وذلك أن رفع سمك السماء لا يلزم منه وجود الأرض، وإنما معناه عظم بنائها في ذاتها، وعلو ما بين أسفلها إلى أعلاها.
قال ابن عاشور في التحرير والتنوير: السمك: الرفع في الفضاء؛ كما اقتصر عليه الراغب، سواء اتصل المرفوع بالأرض أو لم يتصل بها، وهو مصدر سمك. والرفع: جعل جسم معتليا وهو مرادف للسمك، فتعدية فعل رفع إلى السمك للمبالغة في الرفع، أي رفع رفعها أي جعله رفيعا، وهو من قبيل قولهم: ليل أليل، وشعر شاعر، وظل ظليل. اهـ.
وقال ابن الجوزي في زاد المسير: معنى {رفع سمكها} رفع ارتفاعها وعلوها في الهواء فسواها بلا شقوق ولا فطور ولا تفاوت، يرتفع فيه بعضها على بعض. اهـ.
وقال ابن كثير في تفسيره: قوله: {بناها} فسره بقوله: {رفع سمكها فسواها} أي: جعلها عالية البناء، بعيدة الفناء، مستوية الأرجاء، مكللة بالكواكب في الليلة الظلماء. اهـ.
وقال ابن جزي في التسهيل: السمك: غلظ السماء، وهو الارتفاع الذي بين سطح السماء الأسفل الذي يلينا وسطحها الأعلى الذي يلي ما فوقها. ومعنى رفعه أنه جعله مسيرة خمسمائة عام. وقيل: السمك السقف. اهـ.
وجاء في تفسير الجلالين: {رفع سمكها} تفسير لكيفية البناء، أي جعل سمتها في جهة العلو رفيعا. وقيل: سمكها سقفها. اهـ.
والله أعلم.