السؤال
لقد أشكل علي التوفيق بين حديثين وآية. من خلال آيات القرآن يمكننا الجزم بأن الجنين يبدأ تكونه من خلال النطفة، والعلقة ومن ثم العظم. ولكنني قرأت حديث عجب الذنب: " كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب، منه خلق، وفيه يركب" ويخبرنا فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أن ابن آدم يخلق ويبعث من عظمة عجب الذنب، أي أن أصل الإنسان وبداية تكونه هو عظم وليس لحما (نطفة وعلقة)، ومما يدلنا على أن القصد من عجب الذنب هو عظم، في الحديث: " .... ليس من الإنسان شيء إلا يبلى، إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة"
فكيف نوفق بين آيات القرآن والعلم، الذي يخبرنا أن بداية الإنسان يكون نطفة ومن ثم علقة ...، والحديث الذي يخبرنا أن الإنسان أصله وبداية تكونه يكون من عظام؟
وأيضا، تجرى اليوم عمليات استئصال للعصعص. فكيف يمكننا القول إن عظم العصعص هو الذي سنبعث منه وهو بذرة الإنسان، وهو يتم التخلص منه اليوم عن طريق استئصاله؟
ومن ثم فإن الحقائق العلمية تخبرنا أن أول شيء يتركب في الجنين هو الشريط الأولي (الذي قال عنه منظرو الإعجاز العلمي)، وليس العصعص. صحيح أن هذا الشريط عبارة عن مجموعة خلايا تتكون منها الأعضاء وكل شيء، وحتى عظم العصعص نفسه يتكون من هذا الشريط الأولي، ومن ثم يتلاشى هذا الشريط ويتحلل، وربما يبقى قسم صغير جدا منه، ويبقى في عظم العصعص. فلا أدري كيف وفقوا بين الحديث، وادعوا أنه يحمل إعجازا؟ ألا يعتبر تأويلا للحديث، وتأويلا للحقائق العلمية ولويها؟ لأن الحديث يخبرنا أن أصل الإنسان من عظم عجب الذنب، ولكن الحقائق العلمية تخبرنا أن أصل الإنسان هو الشريط الأولي، ومن ثم هذا الشريط بعد تكوينه للأعضاء، يندثر وربما (ليس من المؤكد)، يبقى قسم صغير منه، ويستقر في عظم العصعص المخلوق بعد تكون الشريط الأولي....
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كل ابن آدم يأكله التراب، إلا عجب الذنب، منه خلق، وفيه يركب.
وهذا لا يتعارض مع خلق الإنسان من نطفة، كما قال تعالى: أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين. [يس: 77]!
كما لا يتعارض خلقه من نطفة، مع ابتداء خلقه من تراب، أو من طين، كما قال تعالى: والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا. [فاطر: 11].
فكل اعتبار يكون له ابتداء، فالأولية المطلقة للتراب وهو خلق آدم، ثم يبتدئ الخلق من اجتماع (ماء الرجل وماء المرأة)، ثم إذا اجتمعا تكونت العلقة؛ كما قال تعالى: هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا [غافر: 67]. ومن هذه العلقة تخلق المضغة، ويكون الجنين، ويكون أول ما يخلق من الجنين هو عجب الذنب، ومنه تتكون العظام وبقية أنسجته، قال تعالى: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين. ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين. [المؤمنون: 12 - 14].
ولذلك قال الصنعاني في التنوير، في شرح حديث عجب الذنب: كأنه أول ما يخلق، وإلا فإنه يخلق العبد من الماء، فهو أول ما يخلق من العظام. اهـ.
وبهذا الاعتبار يصح أن يقال: إن أول ما يخلق من الجنين هو عجب ذنبه، ومنه تخلق أعضاؤه وأنسجته.
ولذلك تناول من تناول من الأطباء هذا الحديث في أبواب الإعجاز العلمي في السنة، وقالوا: إن عجب الذنب هو المكون الأساس الذي يركب منه الجنين في مراحله الأولية.
وللدكتور عثمان جيلان بحث في هذه القضية، قال فيه: إن أول ما يخلق ويتكون في الجنين هو عجب الذنب، وبعد ذلك يتكون منه الإنسان وجميع أعضاؤه وأنسجته، ولقد ثبت في كتب الأجنة أن أول ما يخلق في الإنسان هو عجب الذنب في مراحل الجنين المبكرة، وبعد ذلك تخلق منه جميع أنسجة أعضاء الجنين، وبعد ذلك يتراجع إلى الوراء ويصغر حجمه ويستقر في منطقة العصعص. اهـ.
وقد نص جماعة من شراح الحديث قديما على معنى ذلك.
فقال القرطبي في التذكرة: أي أول ما خلق من الإنسان هو -يعني عجب الذنب- ثم إن الله تعالى يبقيه إلى أن يركب الخلق منه تارة أخرى. اهـ.
وتبعه على ذلك: النووي في شرح مسلم، وابن العراقي في طرح التثريب، والسيوطي والسندي في حاشيتهما على سنن النسائي، والقاري في مرقاة المفاتيح، والعظيم آبادي في عون المعبود، وغيرهم.
وقال الحافظ ابن عبد البر في التمهيد: أما قوله: "منه خلق وفيه يركب" فيدل على أنه ابتدأ خلقه وتركيبه من عجب ذنبه، والله أعلم، وهذا لا يدرك إلا بخبر ولا خبر فيه عندنا مفسر، وإنما هي جملة ما جاء في هذا الخبر. اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: قوله في رواية الأعرج: "منه خلق" يقتضي أنه أول كل شيء يخلق من الآدمي. اهـ.
ومن أهل العلم من ذهب إلى أن المراد بالخلق هنا خلق آدم.
كما قال القنازعي في تفسير الموطأ: منه ابتدأ خلق آدم، وفيه يركب إذا نفخ في الصور نفخة النشور. اهـ.
وأشار المناوي في فيض القدير إلى الاحتمالين، فقال: أي منه ابتداء خلق الإنسان وابتداء تركيبه. ويحتمل أن المراد ابتداء خلقه. ومنه يركب خلقه عند قيام الساعة، وهذا أظهر. اهـ.
وأما مسألة استئصال للعصعص، فهذا إن صح فلا يتعارض مع الحديث، فإن الحديث إنما نص على أنه لا يبلى أو لا يأكله التراب، فلفظ رواية البخاري: يبلى كل شيء من الإنسان، إلا عجب ذنبه، فيه يركب الخلق. وعند أحمد وابن حبان وأبي يعلى والحاكم بلفظ: يأكل التراب كل شيء من الإنسان، إلا عجب ذنبه.
فحتى إذا فرضنا أنه استؤصل من صاحبه، فإنه لا يبلى ولا يأكله التراب. ومنه يركب خلق صاحبه يوم القيامة.
والله أعلم.