الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا ريب أن الدين له علاقة وثيقة بالأخلاق، وحسبك من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنما بعثت لأتمم مكارم - وفي رواية: صالح - الأخلاق. رواه أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني.
فالدين الحق يحث أتباعه على الأخلاق الكريمة، وينهاهم عن الأخلاق الذميمة، ويأمرهم بالمجاهدة، والمصابرة؛ لتلين طباعهم للفضائل، وتنأى عن الرذائل، وهو بذلك يقوم أخلاق أتباعه ويكملها، قال الشاطبي في (الموافقات): الشريعة كلها إنما هي تخلق بمكارم الأخلاق؛ ولهذا قال عليه السلام: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، إلا أن مكارم الأخلاق إنما كانت على ضربين:
أحدهما: ما كان مألوفا وقريبا من المعقول المقبول، كانوا في ابتداء الإسلام إنما خوطبوا به، ثم لما رسخوا فيه، تمم لهم ما بقي.
وهو الضرب الثاني: وكان منه ما لا يعقل معناه من أول وهلة، فأخر؛ حتى كان من آخره تحريم الربا، وما أشبه ذلك. وجميع ذلك راجع إلى مكارم الأخلاق. اهـ.
والفطرة -التي هي الخلقة، والجبلة المتهيئة لقبول الحق- تدل هي الأخرى على مكارم الأخلاق، وتقبلها، وتقبل عليها.
وراجع في معنى الفطرة وعلاقتها بالغريزة وبالعقل الفتاوى: 214030، 26645، 131090، 131838.
فإذا حصل نقص في التدين، أو انحراف عن الفطرة، فات من مكارم الأخلاق قدر يناسب ذلك، وبقي منها قدر يناسب ما بقي منه، فتجد في الشخص الواحد ما يحمد وما يذم من الأخلاق، وتجد الناس يتفاوتون في أخلاقهم؛ حتى تجد من أهل الإيمان من يتصف بخلق ذميم، وتجد من أهل الكفر من يتصف بخلق فاضل؛ ولذلك تجد النص القرآني يفصل ويعطى كل ذي حق حقه، فيشيد بأمانة بعض اليهود، ويذم بعضهم بخيانته، كما قال تعالى: ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما [آل عمران:75]، قال السعدي في تفسيره: يخبر تعالى عن حال أهل الكتاب في الوفاء والخيانة في الأموال، لما ذكر خيانتهم في الدين ومكرهم وكتمهم الحق، فأخبر أن منهم الخائن والأمين، وأن منهم: {من إن تأمنه بقنطار} وهو المال الكثير {يؤده} وهو على أداء ما دونه من باب أولى، ومنهم: {من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك} وهو على عدم أداء ما فوقه من باب أولى وأحرى. اهـ.
وقال تعالى: منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون [المائدة:66].
ومما يفسر ذلك أن الأخلاق منها ما يكون غريزيا، يوهب للمرء ابتداء، حتى ولو كان كافرا، كبقية أنواع الرزق؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة. رواه مسلم.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: حكى ابن بطال تبعا للطبري خلافا هل حسن الخلق: غريزة أو مكتسب؟ وتمسك من قال بأنه غريزة بحديث ابن مسعود: "إن الله قسم أخلاقكم، كما قسم أرزاقكم" الحديث ...
وقال القرطبي في المفهم: "الخلق جبلة في نوع الإنسان، وهم في ذلك متفاوتون، فمن غلب عليه شيء منها إن كان محمودا، وإلا فهو مأمور بالمجاهدة فيه حتى يصير محمودا، وكذا إن كان ضعيفا فيرتاض صاحبه حتى يقوى".
قلت: وقد وقع في حديث الأشج العصري عند أحمد، والنسائي، والبخاري في الأدب المفرد، وصححه ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة"، قال: يا رسول الله، قديما كانا في أو حديثا؟ قال: "قديما" قال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما. فترديده السؤال، وتقريره عليه، يشعر بأن في الخلق ما هو جبلي، وما هو مكتسب. اهـ.
ومن ذلك أيضا من اشتهر من أهل الجاهلية بالأخلاق الفاضلة، والخصال الحميدة، كحاتم الطائي، وعبد الله بن جدعان، وهشام بن المغيرة، وغيرهم ممن كان يطعم الطعام، ويصل الرحم، ويقري الضيف، ويفك الأسير، ويتحمل عن المدين.
وبناء على ذلك؛ فيمكن القول بأن الكفر يفسد أهم ما فطر عليه الإنسان، وهو الإيمان بالخالق وتوحيده، ولكن ذلك لا يعني أن تفسد الفطرة بالكلية، ولا يبقى لها أثر! بل قد يبقى منها أثر أخلاقي جبلي موهوب، كما قد يكون الخلق مكتسبا من البيئة الاجتماعية، أو الأسرية، وقد يكون ناتجا عن إعمال العقل والفكر الإنساني الذي ميز الله به البشر.
والحاصل؛ أنه يمكن اجتماع الكفر مع بقية من الأخلاق الحسنة، فتجد كافرا يصدق في حديثه، أو يؤدي الأمانة، أو يعين المحتاج، أو يرد الجميل ويحفظه، ونحو ذلك من الأخلاق الاجتماعية المحمودة.
والله أعلم.