الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فشكر الله لك حرصك على التعلم والدعوة إلى دين الله تعالى، وإن كنا نلفت النظر إلى أن مسائل العلم، منها المهم، ومنها الأهم، وينبغي تقديم الأهم على المهم، كما ينبغي أن يتدرج المرء في الطلب، فيبدأ باليسير قبل العسير، وبالواضح قبل المشكل. ومن جملة ذلك أن يبدأ المرء بتعلم دينه، قبل أن يقارن بينه وبين غيره.
وأما جواب سؤالك الأول: فالدخول في دين الله تعالى يكون بأشياء لا علاقة لها بإعلان الإسلام أو إشهاره، وذلك بالنطق بالشهادتين مع اعتقاد معناهما، ثم تعلم أركان الإيمان وأعمال القلوب من محبة الله تعالى، وخشيته، ورجاء رحمته، والتوكل عليه.
وأما أركان الإسلام الظاهرة -وأعظمها الصلاة- فيمكن أن يأتي بها سرا. وإن خشي ضررا معتبرا من ظهور حاله إذا أتى بها بكمال شروطها وواجباتها ومواقيتها، فليأت من ذلك بما يقدر عليه، حتى يجعل الله له فرجا ومخرجا، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وهذا يختلف بحسب اختلاف الأحوال. وانظر للفائدة الفتويين: 32823، 146651.
وأما السؤال الثاني: فجوابه أن هذا محتمل، ولا يمكننا الجزم بإثباته ولا بنفيه.
وقد قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: {فيهما} أي: في السموات والأرض، {من دابة} وهذا يشمل الملائكة والجن والإنس وسائر الحيوانات، على اختلاف أشكالهم وألوانهم ولغاتهم، وطباعهم وأجناسهم، وأنواعهم، وقد فرقهم في أرجاء أقطار الأرض والسموات. اهـ.
ومن أهل العلم من حمل ضمير المثنى لفظا على معنى أحدهما.
قال الفراء في معاني القرآن: {فيهما من دابة} أراد: وما بث في الأرض دون السماء، بذلك جاء في التفسير، ومثله مما ثني ومعناه واحد، قوله: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} وإنما يخرج من الملح دون العذاب. اهـ.
وذكر ابن عطية في المحرر الوجيز، الوجه الذي ذكره الفراء، وزاد عليه: أن يكون تعالى قد خلق السماوات وبث دواب لا نعلمها نحن.
وقال: حكى الطبري عن مجاهد أنه قال في تفسير: {وما بث فيهما من دابة} هم الناس والملائكة. وبعيد غير جار على عرف اللغة، أن تقع الدابة على الملائكة. اهـ.
وأما الرازي فقرب ما استبعده ابن عطية، فقال في تفسيره مفاتيح الغيب: إن قيل: كيف يجوز إطلاق لفظ الدابة على الملائكة؟ قلنا: فيه وجوه:
الأول: أنه قد يضاف الفعل إلى جماعة وإن كان فاعله واحدا منهم، يقال: بنو فلان فعلوا كذا، وإنما فعله واحد منهم. ومنه قوله تعالى: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان}.
الثاني: أن الدبيب هو الحركة، والملائكة لهم حركة.
الثالث: لا يبعد أن يقال إنه تعالى خلق في السموات أنواعا من الحيوانات يمشون مشي الأناسي على الأرض. اهـ.
ومن المفسرين المتأخرين من فصل في ذلك، ونقل عن غيره الجزم بما حقه الاحتمال.
فقال القاسمي في تفسيره محاسن التأويل: ذهب بعض الباحثين في آيات القرآن الفلكية والعوالم العلوية إلى معنى آخر في هذه الآية.
وعبارته: يفهم من هذه الآية أن الله تعالى خلق في السموات دواب، ويستدل من قوله تعالى: {والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء} [النور: 45]، أن هذه الدواب ليست ملائكة كما قال المفسرون، بل حيوانات كحيوانات الأرض. ولا يبعد أن يكون بينهم حيوان عاقل كالإنسان، ويلزم لحياة تلك الحيوانات أن يكون في السموات نباتات وأشجار وبحار وأنهار كما تحقق في هذا العصر لدى علماء الرصد.
ثم قال: لعمري، إن هذه الآية التي نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم قبل ألف وثلاثمائة وعشرين سنة، لآية لأهل هذا العصر وأية آية، آية لأهل العلم والفلسفة الذين يبذلون الأموال والأرواح بلا حد ولا حساب، ليتوصلوا إلى معرفة سر من أسرار الكائنات. ومع هذا الجد العنيف والجهد المتواصل منذ ثلاثمائة سنة، لم يتوصلوا إلا بالظن إلى ما أنبأت به هذه الآية. وجل ما توصلوا إليه بالبرهان العقلي، أن الأرض أصغر من الشمس وأنها تدور حولها. وأن الكواكب السيارات كريات. وأن النجوم الثوابت شموس، ولها سيارات تدور حولها.
ولما ثبت لديهم جميعا وجود الماء والهواء، وحصول الصيف والشتاء في هذه السيارات، ظنوا أنه يوجد فيها عالم كعالم الأرض. وبدأ البعض منهم يفكرون بإيجاد الوسائل للمخابرة بالكهربائية مع سكان المريخ الذي هو أقرب السيارات إلينا. وليس ذلك بالمستحيل فنا. ويستدل على إمكانيته من آخر الآية نفسها وهو قوله تعالى: {وهو على جمعهم إذا يشاء قدير}، فلا يبعد أن يتخابرا ويجتمعا فكرا، إذا لم يجتمعا جسما.
فلينظر الفلكيون إلى ما حوته هذه الآية المكنوزة في القرآن. وليعلم المعجبون منا بالعلوم العصرية، الضاربون صفحا عن العلوم الإسلامية، ما في كتاب الله من الحكمة والبيان.
وقال أيضا: لا يخفى أن القرآن العظيم نزل لبيان الحق وتعليم الدين، أولا وبالذات. لكن، تمهيدا لهذه السبيل، أتى بشذرات من العلوم الفلكية والطبيعية، وصرف بصائر الناس إلى التفكر في خلق السموات والأرض، وما هن عليه من الإبداع.
فوجه أبصارهم إلى التأمل في خلق الإنسان وما هو عليه من التركيب العجيب، إلى غير ذلك من الأمور الفلكية والطبيعية في أكثر من ثلاثمائة آية. فالمفسرون -رحمهم الله- لما فسروا هذه الآيات، شرحوا معانيها على مقدار محيط علمهم بالعلوم الفلكية والطبيعية. ولا يخفى ما كانت عليه هذه الآلات في زمنهم من النقصان، لا سيما علم الفلك. فهم معذرون إذا لم يفهموا معاني هذه الآيات التي تحير عقول فلاسفة هذا العصر، المتضلعين بالعلوم العقلية. لذلك لم يفسروا هذه الآيات حق تفسيرها، بل أولوها وصرفوا معانيها عن الحقيقة إلى المجاز أو الكناية. انتهى كلامه.
وقال عالم فلكي أيضا: يقول العلماء إنه من المحقق أن هذه السيارات مسكونة بحيوانات تشبه الحيوانات التي على أرضنا هذه، ويكون كل كوكب منها أرضا بالنسبة لحيواناته. وباقي الكواكب سموات بالنسبة لها.
قال: والظاهر أن القول بوجود الحيوانات في هذه الكواكب صحيح؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه: {ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير}، ويقول: {يسئله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن} [الرحمن: 29]. اهـ.
والله أعلم.