الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالقرآن الكريم معجز في لفظه، وفي معناه، وفي أثره:
فأما اللفظ: فمن حيث الفصاحة، والبلاغة، والبيان، والجزالة، والنظم، والتركيب.
وأما المعنى: فمن حيث الأحكام، والتشريعات، والدلالات، والإخبار عن المغيبات.
وأما الأثر: فمن حيث الهداية، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور. وراجع في ذلك الفتوى: 339844.
وقد قال العلامة الطاهر بن عاشور في مقدمة تفسيره: (التحرير والتنوير): إنما وقع التحدي بسورة - أي: وإن كانت قصيرة - دون أن يتحداهم بعدد من الآيات؛ لأن من أفانين البلاغة ما مرجعه إلى مجموع نظم الكلام وصوغه؛ بسبب الغرض الذي سيق فيه من فواتح الكلام وخواتمه، وانتقال الأغراض، والرجوع إلى الغرض، وفنون الفصل، والإيجاز والإطناب، والاستطراد والاعتراض .. وإذ قد كان تفصيل وجوه الإعجاز لا يحصره المتأمل، كان علينا أن نضبط معاقدها التي هي ملاكها، فنرى ملاك وجوه الإعجاز راجعا إلى ثلاث جهات:
الجهة الأولى: بلوغه الغاية القصوى مما يمكن أن يبلغه الكلام العربي البليغ من حصول كيفيات في نظمه مفيدة معاني دقيقة ونكتا من أغراض الخاصة من بلغاء العرب مما لا يفيده أصل وضع اللغة، بحيث يكثر فيه ذلك كثرة لا يدانيها شيء من كلام البلغاء من شعرائهم وخطبائهم.
الجهة الثانية: ما أبدعه القرآن من أفانين التصرف في نظم الكلام مما لم يكن معهودا في أساليب العرب، ولكنه غير خارج عما تسمح به اللغة.
الجهة الثالثة: ما أودع فيه من المعاني الحكمية، والإشارات إلى الحقائق العقلية والعلمية مما لم تبلغ إليه عقول البشر في عصر نزول القرآن، وفي عصور بعده متفاوتة ...
وقد عد كثير من العلماء من وجوه إعجاز القرآن ما يعد جهة رابعة هي: ما انطوى عليه من الأخبار عن المغيبات؛ مما دل على أنه منزل من علام الغيوب ...
فإعجاز القرآن من الجهتين الأولى والثانية متوجه إلى العرب؛ إذ هو معجز لفصحائهم وخطبائهم وشعرائهم مباشرة، ومعجز لعامتهم بواسطة إدراكهم أن عجز مقارعيه عن معارضته مع توفر الدواعي عليه، هو برهان ساطع على أنه تجاوز طاقة جميعهم. ثم هو بذلك دليل على صدق المنزل عليه لدى بقية البشر الذين بلغ إليهم صدى عجز العرب بلوغا لا يستطاع إنكاره لمعاصريه بتواتر الأخبار، ولمن جاء بعدهم بشواهد التاريخ. فإعجازه للعرب الحاضرين دليل تفصيلي، وإعجازه لغيرهم دليل إجمالي.
ثم قد يشارك خاصة العرب في إدراك إعجازه كل من تعلم لغتهم، ومارس بليغ كلامهم وآدابهم من أئمة البلاغة العربية في مختلف العصور ...
والقرآن معجز من الجهة الثالثة للبشر قاطبة إعجازا مستمرا على ممر العصور، وهذا من جملة ما شمله قول أئمة الدين: إن القرآن هو المعجزة المستمرة على تعاقب السنين؛ لأنه قد يدرك إعجازه العقلاء من غير الأمة العربية بواسطة ترجمة معانيه التشريعية، والحكمية، والعلمية، والأخلاقية، وهو دليل تفصيلي لأهل تلك المعاني، وإجمالي لمن تبلغه شهادتهم بذلك.
وهو من الجهة الرابعة - عند الذين اعتبروها زائدة على الجهات الثلاث - معجز لأهل عصر نزوله إعجازا تفصيليا، ومعجز لمن يجيء بعدهم ممن يبلغه ذلك بسبب تواتر نقل القرآن، وتعين صرف الآيات المشتملة على هذا الإخبار إلى ما أريد منها. اهـ.
ثم فصل ذلك وبينه، فراجعه هناك بطوله.
ومما يحسن الرجوع إليه في هذا الباب كتاب: (النبأ العظيم) للعلامة الدكتور محمد عبد الله دراز ـ رحمه الله ـ ففيه البراهين الساطعة، والحجج الدامغة التي تثبت أن هذا القرآن هو كلام الخالق سبحانه الذي لا يمكن أن يخرج من أحد سواه.
والله أعلم.