الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فجواب هذا السؤال يبنى على أمرين:
الأول: حكم إجراء العقود -ولا سيما ما يدخله الربا- عن طريق الإنترنت، ووسائل الاتصال الحديثة.
والثاني: كيفية تحقيق القبض حكما في مثل هذه العقود.
وكلا الأمرين موضع بحث ونظر من العلماء المعاصرين.
والذي يجري عليه العمل الآن في الصيرفة في البنوك، والمؤسسات المالية الإسلامية هو: تصحيح العقود عن طريق الإنترنت، ووسائل الاتصال الحديثة، ما دامت موثوقة.
وما كان منها كتابيا، فله أحكام التعاقد بين الغائبين.
وما كان منها صوتيا -فضلا عن اجتماع الصورة مع الصوت-، فله أحكام التعاقد بين الحاضرين، ويكون مجلس العقد حينئذ هو زمن الاتصال بين المتعاقدين، ما دام الكلام في شأن العقد متصلا.
وفي مجلس العقد هذا يتحقق القبض شرعا بكل الوسائل المتعارف عليها في القبض الحكمي، جاء في المعايير الشرعية التي وضعتها هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، في المعيار رقم: (1) المتعلق بالمتاجرة في العملات:
ـ تجوز المتاجرة في العملات؛ شريطة مراعاة الأحكام والضوابط الشرعية الآتية:
أ) أن يتم التقابض قبل تفرق العاقدين، سواء أكان القبض حقيقيا أم حكميا.
...
ـ إذا تم التعاقد على بيع مبلغ من العملات، فلا بد من تسليم وقبض جميع المبالغ موضوع المتاجرة قبل التفرق.
...
ـ يتحقق القبض بحصوله حقيقة أو حكما، وتختلف كيفية قبض الأشياء بحسب حالها، واختلاف الأعراف فيما يكون قبضا لها.
ـ يتحقق القبض الحقيقي بالمناولة بالأيدي.
ـ يتحقق القبض الحكمي اعتبارا وحكما بالتخلية، مع التمكين من التصرف، ولو لم يوجد القبض حسا، ومن صور القبض الحكمي المعتبرة شرعا وعرفا ما يأتي:
(أ) القيد المصرفي لمبلغ من المال في حساب العميل في الحالات الآتية:
1. إذا أودع في حساب العميل مبلغ من المال مباشرة، أو بحوالة مصرفية ... ويغتفر تأخير القيد المصرفي - بالصورة التي يتمكن المستفيد بها من التسلم الفعلي - إلى المدة المتعارف عليها في أسواق التعامل، على أنه لا يجوز للمستفيد أن يتصرف في العملة خلال المدة المغتفرة إلا بعد أن يحصل أثر القيد المصرفي بإمكان التسليم الفعلي.
...
ـ استخدام وسائل الاتصال الحديثة في المتاجرة في العملات:
(أ) التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة بين طرفين في مكانين متباعدين تنشأ عنه نفس الآثار المترتبة على إجراء العقد في مكان واحد.
(ب) الإيجاب المحدد المدة الصادر بإحدى الوسائل المشار إليها يظل ملزما لمن أصدره خلال تلك المدة، ولا يتم العقد إلا عند القبول والتقابض الحقيقي، أو الحكمي. اهـ.
وجاء في المعيار رقم: (38) المتعلق بشأن التعاملات المالية بالإنترنت (ص962):
ـ إبرام العقد باستخدام المحادثة الصوتية، أو المحادثة بالصوت والصورة بين المتعاقدين عبر الإنترنت، يأخذ أحكام التعاقد بين حاضرين.
وعليه؛ فإنه تسري عليه جميع أحكام التعاقد بين حاضرين، كاشتراط اتحاد المجلس، وعدم صدور ما يدل على إعراض أحد العاقدين عن التعاقد، والموالاة بين الإيجاب والقبول، بحسب العرف، وما إلى ذلك من أحكام.
ـ مجلس العقد في هذه الحالة هو زمن الاتصال بين المتعاقدين، ما دام الكلام في شأن العقد، فإذا انتهى الاتصال، أو انقطع، أو انتقل المتعاقدان لموضوع آخر لا صلة له بموضوع الاتصال، انتهى المجلس، إلا إذا كان الانقطاع يسيرا عرفا.
ـ إبرام العقد باستخدام المحادثة الكتابية، أو بالبريد الإلكتروني، أو عبر الموقع على الشبكة، يأخذ أحكام التعاقد بين غائبين، مثل التعاقد عن طريق الرسالة.
ـ مجلس العقد في هذه الحالة يبدأ من لحظة بلوغ الإيجاب إلى من وجه إليه، وينتهي بصدور القبول، كما ينتهي برجوع الموجب عن إيجابه قبل قبول الطرف الآخر للإيجاب.
ـ ينعقد العقد باستخدام الإنترنت - أيا كانت طريقة التعاقد - وقت صدور القبول من الطرف الآخر، سواء أعلم الموجب به أم لم يعلم.
يتحقق القبض شرعا في العقود المبرمة بالإنترنت بكل الوسائل المتعارف عليها في القبض الحقيقي، أو الحكمي ...
يجب التحقق من حصول القبض الفوري حقيقة أو حكما في مجلس العقد للبدلين في بيع العملات، والذهب، والفضة، وما يجب فيه التقابض. اهـ.
وعلى ذلك؛ فيمكن ضبط المعاملة المذكورة في السؤال بالاتفاق بين الطرفين بأن يتم الصرف خلال اتصالهما صوتيا، وأن يتم إيداع كلا المبلغين بالعملتين المختلفتين تباعا خلال الاتصال نفسه؛ وذلك بأن يتم التحويل عن طريق الجوال مباشرة لحساب الطرف الآخر، أو بأن يوجد كل طرف في البنك الذي فيه حساب الطرف الآخر، بحيث يودع أحدهما المبلغ المطلوب، ويرسل صورة الإيداع مباشرة، فيقوم الطرف الآخر بالإيداع مباشرة في حساب الطرف الأول أثناء الاتصال.
وأما الخيار الثاني وهو تسليم المبلغ لمندوب من طرف السائل، فلا يحصل به التقابض؛ إلا إذا اجتمع هذا المندوب مع الطرف الآخر في وقت التحويل، بحيث يستلم منه العوض في وقت إيداع البدل.
عدا هذه الصورة المذكورة في السؤال، وما شابهها من الصور التي يمكن التقابض فيها حسب الضوابط الشرعية، تبقى حالات الضرورات لها أحكامها.
والله أعلم.