السؤال
يمكننا أن نلخص منهج الفرقة الناجية في ثلاثة أصول: القرآن الكريم، والسنة النبوية، على فهم سلف الأمة، وسلف الأمة هم: الصحابة، والتابعون، وأتباع التابعين، وفهم الصحابة حجة للأدلة التالية: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم} (100)، وللحديث الصحيح الصريح في إحدى الروايات: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل : من هي يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي]، فهذان الدليلان قويان في حجية فهم الصحابة، ولكن لماذا كان لفهم التابعين وأتباعهم حجية؟ صحيح أن النبي قال: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، لكن هذا يقتضي الخيرية فقط، لا الاتباع، كما هو واضح في الدليلين السابقين.
نعم، إذا أخذ أحد من التابعين، أو أتباع التابعين علمه وفهمه من الصحابة، فإننا نأخذ به.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالصحابة -فضلا عن التابعين- إذا اختلفوا فيما بينهم، فليس فهم بعضهم بحجة على فهم بعض، وإنما الحجة فيما اتفقوا عليه، أو حفظ عن بعضهم، ولم يعلم لهم مخالف، وهذا حاصل في باب العقائد، ومسائل أصول الدين.
وأما الفروع العملية فمنها المتفق عليه، ومنها المختلف فيه.
وعلى ذلك؛ فحجية فهم الصحابة فيما اتفقوا عليه، لا تقتصر على ما ورد في بيان فضلهم وخصائصهم، وإنما كذلك كل ما تثبت به حجية الإجماع، وهذا لا يقتصر على عصر الصحابة، وإنما يتناول أيضا من بعدهم، إن أمكن ضبطه؛ ولذلك تتميز أجيال القرون الأولى؛ لإمكان ضبط إجماعهم، مع ما لهم من الفضل، وقربهم وأخذهم عن الصحابة، واجتماع أئمتهم على ما أخذوه عن الصحابة، فلم يحدث بينهم التفرق المذموم، وظهور البدع، إلا على قلة وضعف، ورده الأئمة بقوة واتفاق، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -كما في مجموع الفتاوى-: أمة محمد خير أمة أخرجت للناس، وأولئك -يعني السابقين- خير أمة محمد، كما ثبت في الصحاح من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. ولهذا كان معرفة أقوالهم في العلم والدين وأعمالهم خيرا وأنفع من معرفة أقوال المتأخرين وأعمالهم في جميع علوم الدين وأعماله، كالتفسير، وأصول الدين وفروعه، والزهد، والعبادة، والأخلاق، والجهاد، وغير ذلك؛ فإنهم أفضل ممن بعدهم، كما دل عليه الكتاب والسنة، فالاقتداء بهم خير من الاقتداء بمن بعدهم، ومعرفة إجماعهم ونزاعهم في العلم والدين خير وأنفع من معرفة ما يذكر من إجماع غيرهم ونزاعهم. وذلك أن إجماعهم لا يكون إلا معصوما، وإذا تنازعوا، فالحق لا يخرج عنهم .. اهـ.
وقال في العقيدة الواسطية: من طريقة أهل السنة والجماعة: اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا. واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ... والإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين. وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال، باطنة أو ظاهرة، مما له تعلق بالدين. والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح؛ إذ بعدهم كثر الاختلاف، وانتشرت الأمة. اهـ.
وقال في المسودة في أصول الفقه: قال أبو داود: قال أحمد بن حنبل: ما أجبت في مسألة إلا بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا وجدت في ذلك السبيل إليه، أو عن الصحابة، أو عن التابعين، فإذا وجدت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم أعدل إلى غيره، فإذا لم أجد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن الخلفاء الأربعة الراشدين المهديين، فإذا لم أجد عن الخلفاء، فعن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكابر فالأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم أجد، فعن التابعين، وعن تابعي التابعين. اهـ.
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين: لما كان التلقي عنه -صلى الله عليه وسلم- على نوعين: نوع بواسطة، ونوع بغير واسطة، وكان التلقي بلا واسطة حظ أصحابه الذين حازوا قصبات السباق ... ثم جاءت الأئمة من القرن الرابع المفضل (في إحدى الروايتين)، كما ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد، وابن مسعود، وأبي هريرة، وعائشة، وعمران بن حصين، فسلكوا على آثارهم اقتصاصا، واقتبسوا هذا الأمر من مشكاتهم اقتباسا، وكان دين الله سبحانه أجل في صدورهم، وأعظم في نفوسهم، من أن يقدموا عليه رأيا، أو معقولا، أو تقليدا، أو قياسا، فطار لهم الثناء الحسن في العالمين، وجعل الله سبحانه لهم لسان صدق في الآخرين، ثم سار على آثارهم الرعيل الأول من أتباعهم، ودرج على منهاجهم الموفقون من أشياعهم .. ثم خلف من بعدهم خلوف، {فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون}. اهـ. وانظر للفائدة الفتويين: 421873، 31293.
وعلى ذلك؛ فالحجة إنما هي فيما اتفق عليه التابعون، أو أتباعهم، وأما آحادهم؛ فليس قوله، أو فهمه بحجة. وانظر الفتوى: 276598.
والله أعلم.