الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا حرج في الاقتصار على أية صيغة من صيغ التشهد الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد، وإنما اختلاف أهل العلم في أيها أفضل، قال في حاشية الروض: واتفق العلماء على جواز التشهدات كلها، الثابتة من طريق صحيح، قال الشيخ: كلها سائغة باتفاق المسلمين. انتهى.
وقال ابن قدامة -رحمه الله تعالى- في المغني: وبأي تشهد تشهد مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، جاز، نص عليه أحمد، فقال: تشهد عبد الله أعجب إلي، وإن تشهد بغيره، فهو جائز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما علمه الصحابة مختلفا، دل على جواز الجميع؛ كالقراءات المختلفة التي اشتمل عليها المصحف. انتهى.
وبهذا تعلم أنه لا حرج عليك إذا تشهدت بأي صيغة وردت.
ولا يضر كذلك إن تشهدت بهذا مرة، وبهذا مرة، ولو في صلاة واحدة؛ كالتشهد الأول والثاني في الرباعية والثلاثية، ما دمت تأتي بالواجب عليك من التشهد.
بل قد رجح بعض العلماء أن المسنون للمسلم في العبادات الواردة على وجوه مختلفة أن يفعل هذا مرة، وهذا مرة؛ لئلا يهجر شيئا من السنة، بل يكون آتيا بجميع السنة، وهذا ما رجحه شيخ الإسلام، وقرره الشيخ ابن عثيمين في الشرح الممتع في غير موضع، ومن كلامه في ذلك قوله: والأفضل أن تفعل هذا مرة، وهذا مرة؛ ليتحقق فعل السنة على الوجهين، ولبقاء السنة حية؛ لأنك لو أخذت بوجه، وتركت الآخر، مات الوجه الآخر، فلا يمكن أن تبقى السنة حية إلا إذا كنا نعمل بهذا مرة، وبهذا مرة، ولأن الإنسان إذا عمل بهذا مرة، وبهذا مرة، صار قلبه حاضرا عند أداء السنة، بخلاف ما إذا اعتاد الشيء دائما، فإنه يكون فاعلا له كفعل الآلة عادة، وهذا شيء مشاهد، ففي فعل العبادات الواردة على وجوه متنوعة فوائد:
1. اتباع السنة. 2.إحياء السنة. 3. حضور القلب. انتهى.
وأما التلفيق بين الصيغ في تشهد واحد، وكذلك التلفيق بين صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ونحوها مما تعددت فيه الصيغ والألفاظ؛ ففيه خلاف بين أهل العلم: فمنهم من منعه، ورآه محدثا؛ لكونه لم ينقل عن السلف؛ ومنهم من رأى جوازه؛ لكون فاعله يصيب كل الألفاظ الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والذي نرى أن الأولى هو الإتيان بإحدى الصيغ مرة، وبصيغة أخرى مرة، دون التلفيق بين الصيغ في تشهد واحد، أو استفتاح واحد، وهكذا.
وقد عقد ابن القيم في كتابه: "جلاء الأفهام" فصلا خاصا لهذه المسألة، نورده هنا بكامله لمن أراد أن يطلع على ما فصل فيه وبين، يقول ابن القيم: الفصل العاشر: في ذكر قاعدة في هذه الدعوات والأذكار التي رويت بأنواع مختلفة، كأنواع الاستفتاحات، وأنواع التشهدات في الصلاة، وأنواع الأدعية التي اختلفت ألفاظها، وأنواع الأذكار بعد الاعتدالين من الركوع والسجود، ومنه هذه الألفاظ التي رويت في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
قد سلك بعض المتأخرين في ذلك طريقة في بعضها، وهو أن الداعي يستحب له أن يجمع بين تلك الألفاظ المختلفة، ورأى ذلك أفضل ما يقال فيها، فرأى أنه يستحب للداعي بدعاء الصديق -رضي الله عنه- أن يقول: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا كبيرا، ويقول المصلي على النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، وعلى أزواجه، وذريته، وارحم محمدا، وآل محمد، وأزواجه، وذريته، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، وكذلك في البركة، والرحمة.
ويقول في دعاء الاستخارة: اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري، وآجله، ونحو ذلك. قال: ليصيب ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم يقينا فيما شك فيه الراوي، ولتجتمع له الأدعية الأخر فيما اختلفت ألفاظها. ونازعه في ذلك آخرون، وقالوا: هذا ضعيف من وجوه:
أحدها: أن هذه طريقة محدثة، لم يسبق إليها أحد من الأئمة المعروفين.
الثاني: أن صاحبها إن طردها، لزمه أن يستحب للمصلي أن يستفتح بجميع أنواع الاستفتاحات، وأن يتشهد بجميع أنواع التشهدات، وأن يقول في ركوعه وسجوده جميع الأذكار الواردة فيه، وهذا باطل قطعا؛ فإنه خلاف عمل الناس، ولم يستحبه أحد من أهل العلم، وهو بدعة، وإن لم يطردها، تناقض وفرق بين متماثلين.
الثالث: أن صاحبها ينبغي له أن يستحب للمصلي والتالي أن يجمع بين القراءات المتنوعة في التلاوة في الصلاة وخارجها. قالوا: ومعلوم أن المسلمين متفقون على أنه لا يستحب ذلك للقارئ في الصلاة ولا خارجها إذا قرأ قراءة عبادة وتدبر، وإنما يفعل ذلك القراء أحيانا؛ ليمتحن بذلك حفظ القارئ لأنواع القراءات، وإحاطته بها، واستحضاره إياها، والتمكن من استحضارها عند طلبها؛ فذلك تمرين وتدريب، لا تعبد يستحب لكل تال وقارئ. ومع هذا؛ ففي ذلك للناس كلام ليس هذا موضعه، بل المشروع في حق التالي أن يقرأ بأي حرف شاء، وإن شاء أن يقرأ بهذا مرة، وبهذا مرة، جاز ذلك، وكذا الداعي إذا قال: ظلمت نفسي ظلما كثيرا مرة، ومرة قال: كبيرا؛ جاز ذلك، وكذلك إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم مرة بلفظ هذا الحديث، ومرة باللفظ الأخر، وكذلك إذا تشهد، فإن شاء تشهد بتشهد ابن مسعود، وان شاء تشهد بتشهد ابن عباس، وإن شاء بتشهد عمر، وإن شاء بتشهد عائشة.
وكذلك في الاستفتاح؛ إن شاء استفتح بحديث علي، وإن شاء بحديث أبي هريرة، وإن شاء باستفتاح عمر -رضي الله عنهم أجمعين-، وإن شاء فعل هذا مرة، وهذا مرة، وهذا مرة.
وكذلك إذا رفع رأسه من الركوع؛ إن شاء قال: اللهم ربنا لك الحمد، وإن شاء قال: ربنا لك الحمد، وإن شاء قال: ربنا ولك الحمد، ولا يستحب له أن يجمع بين ذلك.
وقد احتج غير واحد من الأئمة -منهم الشافعي- على جواز الأنواع المأثورة -في التشهدات، ونحوها- بالحديث الذي رواه أصحاب الصحيح، والسنن وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف. فجوز النبي صلى الله عليه وسلم القراءة بكل حرف من تلك الأحرف، وأخبر أنه شاف كاف، ومعلوم أن المشروع في ذلك أن يقرأ بتلك الأحرف على سبيل البدل، لا على سبيل الجمع، كما كان الصحابة يفعلون.
الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع بين تلك الألفاظ المختلفة في آن واحد، بل إما أن يكون قال هذا مرة، وهذا مرة؛ كألفاظ الاستفتاح، والتشهد، وأذكار الركوع والسجود، وغيرها، فاتباعه -صلى الله عليه وسلم- يقتضي أن لا يجمع بينها، بل يقال هذا مرة، وهذا مرة، وإما أن يكون الراوي قد شك في أي الألفاظ قال، فإن ترجح عند الداعي بعضها، صار إليه، وإن لم يترجح عنده بعضها؛ كان مخيرا بينها، ولم يشرع له الجمع، فإن هذا نوع ثالث لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيعود الجمع بين تلك الألفاظ في آن واحد على مقصود الداعي بالإبطال؛ لأنه قصد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ففعل ما لم يفعله قطعا.
ومثال ما يترجح فيه أحد الألفاظ حديث الاستخارة؛ فإن الراوي شك هل قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم إن كنت تعلم أن هذا خير لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري؛ أو قال: وعاجل أمري وآجله، بدل: وعاقبة أمري. والصحيح اللفظ الأول، وهو قوله: وعاقبة أمري، لأن عاجل الأمر وآجله هو مضمون قوله: "ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري"، فيكون الجمع بين المعاش وعاجل الأمر وآجله تكرارا، بخلاف ذكر المعاش والعاقبة، فإنه لا تكرار فيه، فإن المعاش هو عاجل الأمر والعاقبة آجله.
ومن ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من قرأ عشر آيات من أول سورة الكهف، عصم من فتنة الدجال. رواه مسلم. واختلف فيه. فقال بعض الرواة: من أول سورة الكهف، وقال بعضهم: من آخرها، وكلاهما في الصحيح، لكن الترجيح لمن قال من أول سورة الكهف؛ لأن في صحيح مسلم من حديث النواس بن سمعان في قصة الدجال: فإذا رأيتموه، فاقرؤوا عليه فواتح سورة الكهف، ولم يختلف في ذلك، وهذا يدل على أن من روى العشر من أول السورة حفظ الحديث، ومن روى من آخرها لم يحفظه.
الخامس: أن المقصود إنما هو المعنى والتعبير عنه بعبارة مؤدية له، فإذا عبر عنه بإحدى العبارتين، حصل المقصود، فلا يجمع بين العبارات المتعددة.
السادس: أن أحد اللفظين بدل عن الآخر، فلا يستحب الجمع بين البدل والمبدل معا، كما لا يستحب ذلك في المبدلات التي لها أبدال. والله تعالى أعلم. انتهى.
وبهذا يتبين لك وجه ما ذكره الشيخ الألباني -رحمه الله- من كون التلفيق بين صيغ التشهد بدعة.
والله أعلم.