السؤال
كيف يسعد من سيدخل الجنة وأحد أهله أو من أحبهم في النار؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فمبنى هذا الإشكال على قياس أمور الدنيا وأحوال أهلها بأمور الآخرة وأحوالها، وهذا لا يصح؛ فلكل دار ما يناسبها من الشؤون والأحوال.
أما الآخرة؛ فقد قال الله عنها: يوم يفر المرء من أخيه* وأمه وأبيه* وصاحبته وبنيه* لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه [عبس: 34-37]، وقال سبحانه: ولا يسأل حميم حميما* يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه* وصاحبته وأخيه* وفصيلته التي تؤويه* ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه [المعارج:10-14]، قال الواحدي في الوجيز: {يبصرونهم} يعرف بعضهم بعضا، أي: إن الحميم يرى حميمه ويعرفه، ولا يسأل عن شأنه. اهـ. وانظر للفائدة الفتويين: 3102، 127211.
ومن الفوارق الواضحة بين حال الناس في الجنة وحالهم لما كانوا في الدنيا، أنهم في الجنة لا يموتون، ولا يحزنون أبدا، كما قال تعالى: وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون [الزمر:61]، وقال سبحانه: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون* أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون [الأحقاف:13-14].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يدخل الجنة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه. وقال أيضا -صلى الله عليه وسلم-: ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا، فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا، فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا، فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا، فلا تبأسوا أبدا. رواهما مسلم.
قال القاضي البيضاوي في شرح مصابيح السنة: معناه: أن الجنة دار الثبات والقرار، وأن التغير لا يتطرق إليها، فلا يشوب نعيمها بؤس، ولا يعتريه فساد، ولا تغير؛ فإنها ليست دار الأضداد، ومحل الكون والفساد. اهـ.
وقال ابن هبيرة في الإفصاح: في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرض أن يصف أهل الجنة بالنعيم فحسب، حتى نفى عنهم البؤس؛ لأن الإنسان قد ينعم، ثم يبؤس، فأخبر بنفي ما يؤذي لو عرض مع حصول النعيم. اهـ.
فنحن نقطع ونجزم بأن أهل الجنة لا يصيبهم الحزن أبدا، لأي سبب كان، كما قال الله سبحانه عنهم: وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن [فاطر:34]، قال ابن الجوزي في زاد المسير: الحزن والحزن واحد، كالبخل والبخل. اهـ.
وقال الواحدي في الوجيز: يعني: كل ما يحزن له الإنسان من أمر المعاش والمعاد. اهـ.
وقال الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: أذهب عنا كل ما يحزن ... وقد أذهب الله عن أهل الجنة كل حزن. اهـ.
وإذا كنا نقطع بذلك؛ فلا يعنينا كيف يزيل الله تعالى الحزن من قلوب أهل الجنة على من دخل النار من ذويهم، فقد ينسونهم ولا يذكرونهم، وقد يلقي الله تعالى في قلوبهم بغضهم، والرضا بما هم فيه من العذاب؛ إيمانا بحكمة الله تعالى وعدله، كما تشير إليه خاتمة سورة الزمر بعد ذكر سوق الكافرين إلى النار، وسوق المتقين إلى الجنة، قال الله تعالى: وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين [الزمر:75].
قال ابن القيم في روضة المحبين: هذا ينكشف يوم القيامة للخليقة بأجمعهم، حين يجمعهم في صعيد واحد، ويوصل إلى كل نفس ما ينبغي إيصاله إليها من الخير والشر، واللذة والألم؛ حتى مثقال الذرة، ويوصل كل نفس إلى غاياتها التي تشهد هي أنها أولى بها؛ فحينئذ ينطق الكون بأجمعه بحمده تبارك وتعالى قالا وحالا، كما قال سبحانه وتعالى: {وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين}، فحذف فاعل القول؛ لأنه غير معين، بل كل أحد يحمده على ذلك الحكم الذي حكم فيه، فيحمده أهل السماوات وأهل الأرض، والأبرار والفجار، والإنس والجن؛ حتى أهل النار. قال الحسن، أو غيره: لقد دخلوا النار وإن حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه سبيلا. اهـ.
ومن صور إزالة الحزن عن أهل الجنة في الآخرة، ما جاء عن الخليل إبراهيم -عليه السلام-، وهو من هو في الجنة، وقد مات أبوه كافرا -فهو من أهل النار-، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب، إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين، ثم يقال: يا إبراهيم، ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا هو بذيخ ملتطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار. رواه البخاري.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: قيل: الحكمة في مسخه؛ لتنفر نفس إبراهيم منه، ولئلا يبقى في النار على صورته، فيكون فيه غضاضة على إبراهيم. اهـ.
والله أعلم.