الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالإحسان في قول الله تعالى: الذي أحسن كل شيء خلقه [السجدة:7]، معناه: موافقة الخلق لمقتضى الحكمة، وهو بهذا الاعتبار يتناول جميع المخلوقات جملة وتفصيلا، قال البيضاوي في أنوار التنزيل: {الذي أحسن كل شيء خلقه} خلقه موفرا عليه ما يستعد له، ويليق به، على وفق الحكمة والمصلحة. اهـ.
وقال الزجاج في معاني القرآن: تأويل الإحسان في هذا أنه خلقه على إرادته، فخلق الإنسان في أحسن تقويم، وخلق القرد على ما أحب -عز وجل-، وخلقه إياه على ذلك من أبلغ الحكمة. اهـ.
وقال الزمخشري في الكشاف: لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة، وأوجبته المصلحة، فجميع المخلوقات حسنة، وإن تفاوتت إلى حسن وأحسن. اهـ.
وقال القاسمي في محاسن التأويل: أي: أحكم خلق كل شيء؛ لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة. اهـ.
وكذا قال جماعة من المفسرين، كالنسفي في مدارك التنزيل، وأبو السعود في إرشاد العقل السليم، والشوكاني في فتح القدير، وصديق حسن خان في فتح البيان.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -كما في مجموع الفتاوى-: الله سبحانه قدر كل شيء وقضاه؛ لما له في ذلك من الحكمة، كما قال: {صنع الله الذي أتقن كل شيء}، وقال تعالى: {الذي أحسن كل شيء خلقه}، فما من مخلوق إلا ولله فيه حكمة، ولكن هذا بحر واسع. اهـ.
وقد سبق لنا التنبيه في الفتوى: 348217 على أن معنى كون خلق الله كله حسنا: أنه ناشئ عن حكمة أحكم الحاكمين، فالمخلوقات كلها حسنة بإضافتها إلى فعل الرب تعالى، فخلقه لها حسن؛ لأنه جار على مقتضى الحكمة، وإن كان بعضها غير حسن في نفسه ..
وأما المخلوق: فقد يكون حسنا، وقد يكون قبيحا، وإنما خلقه الله على هذا الوجه؛ لما له في ذلك من الحكمة البالغة.
كما سبق لنا في الفتوى: 425803 التنبيه على أن وجود ذوي العاهات، وناقصي الخلقة من البشر، وغيرهم، لا يدل على نقص في الخالق جل وعلا، ولا ينفي حسن خلقه، وإتقان صنعه، فإنه كان قادرا على معافاتهم كبقية البشر، ولكن اقتضت حكمته أن يفاوت بين الناس في الخلقة، كما فاوت بينهم في الرزق، والعطاء؛ إظهارا لطلاقة القدرة، واستخراجا لعبادتي الشكر، والصبر، وتمييزا بين الناس بابتلائهم بالسراء، والضراء.
وأما تسبيح الكائنات -ومنها: الكافر- لله تعالى، فهو تسبيح خضوع ودلالة، لا تسبيح عبادة؛ فالكافر يسبح بلسان حاله لا بلسان مقاله، فخلقته وصنعه تدل على الخالق سبحانه، كما إنه خاضع لحكم الله، لا يستطيع أن يخرج عنه أبدا، وراجع في ذلك الفتوى: 94288.
وأما السؤال الثالث، فقوله تعالى: وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب. ليس استثناء من أول الآية: ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض. وإنما هو من عطف الخاص على العام، كما عطف عليها: والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب [الحج:18] وهذه الأشياء من جملة ما في السموات والأرض، فتكون هذه الآية، كقوله تعالى: ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال [الرعد:15].
فمنهم من يسجد طوعا -كالمؤمن-، ومنهم من يسجد كرها -كالكافر- الذي حق عليه العذاب، وهذا أحد الوجهين في تفسير الآية، قال الواحدي في الوجيز: {ألم تر أن الله يسجد له} يذل له، وينقاد له {من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب}، وذلك أن كل شيء منقاد لله عز وجل على ما خلقه، وعلى ما رزقه، وعلى ما أصحه، وعلى ما أسقمه؛ فالبر، والفاجر، والمؤمن، والكافر في هذا سواء. اهـ.
والوجه الثاني في تفسير الآية: أن قوله تعالى: وكثير حق عليه العذاب. جملة مستأنفة، وليست معطوفة على ما سبق، والمعنى: أن كثيرا من الناس برغم سجودهم وخضوعهم لحكم الله، استحقوا العذاب لكفرهم، أو: أن كثيرا من الناس أبى السجود، فلم يسجد، فاستحق العذاب، قال البغوي في تفسيره: أي: من هذه الأشياء كلها تسبح الله عز وجل، وكثير من الناس، يعني: المسلمين، وكثير حق عليه العذاب، وهم الكفار؛ لكفرهم وتركهم السجود، وهم مع كفرهم تسجد ظلالهم لله عز وجل، والواو في قوله: {وكثير حق عليه العذاب} واو الاستئناف. اهـ.
وقال ابن عطية في المحرر الوجيز: قوله تعالى: {وكثير حق عليه العذاب} يحتمل أن يكون معطوفا على ما تقدم، أي: {وكثير حق عليه العذاب} يسجد، أي: كراهية، وعلى رغمه، إما بظله، وإما بخضوعه عند المكاره، ونحو ذلك، قاله مجاهد .. ويحتمل أن يكون رفعا بالابتداء مقطوعا مما قبله، وكأن الجملة معادلة لقوله: {وكثير من الناس}؛ لأن المعنى أنهم مرحومون بسجودهم، ويؤيد هذا قوله تعالى بعد ذلك: {ومن يهن الله ..} الآية. اهـ.
وقال ابن الجوزي في زاد المسير: في قوله تعالى: {وكثير حق عليه العذاب} قولان:
أحدهما: أنهم الكفار، وهم يسجدون، وسجودهم سجود ظلهم، قاله مقاتل.
والثاني: أنهم لا يسجدون.
والمعنى: وكثير من الناس أبى السجود، فحق عليه العذاب؛ لتركه السجود، هذا قول الفراء. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في (رسالة في قنوت الأشياء كلها لله تعالى): الله سبحانه ذكر في الرعد قوله: {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها}، فعم في هذه الآية، ولم يستثن، وقسم السجود إلى طوع وكره. وقال في الحج: {ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب}، وفي هذا الكثير قولان:
أحدهما: أنه لم يسجد؛ فلهذا حق عليه العذاب، كما تقدم عن طاوس، وهو قول الفراء، وغيره.
والثاني: أنه سجد وحق عليه العذاب، فإنه ليس هو السجود المأمور به ...
فإذا كان السجود في هذه الآية ليس عاما، وهو هناك عام، كان السجود المطلق هو سجود الطوع، فهذه المذكورات تسجد تطوعا هي وكثير من الناس، والكثير الذي حق عليه العذاب إنما يسجد كرها؛ وحينئذ فالكثير الذي حق عليه العذاب لم يقل فيه: إنه يسجد، ولا نفى عنه كل سجود، بل تخصيص من سواه بالذكر يدل على أنه ليس مثله؛ وحينئذ فإذا لم يسجد طائعا، حصل فائدة التخصيص، وهو مع ذلك يسجد كارها، فكلا القولين صحيح. اهـ.
والله أعلم.