0 21

السؤال

في قصة أصحاب الأخدود: هل ما فعله الراهب، أو العابد من قوله للغلام: "إذا سألك أهلك، فقل لهم: إنني تأخرت عند الساحر، وإذا سألك الساحر، فقل له: إنني تأخرت عند أهلي؛ حتى لا يضربه أهله، أو الساحر".
أليس هذا كذبا؟ أم أن ما فعله له طريق وسند شرعي؟
وجزاكم الله -عز وجل- خيرا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالكذب حرام، ومن قبائح الذنوب، وفواحش العيوب، فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقا. وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا. رواه البخاري ومسلم.

وقد رخص الشارع فيه في مواضع لا يمكن تحقيق مصلحة، أو دفع مفسدة إلا به، روى الشيخان من حديث أم كلثوم -رضي الله عنها- أنها سمعت النبي يقول: ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فيقول خيرا، وينمي خيرا، قالت: ولم أسمعه يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث: في الحرب، وفي الإصلاح بين الناس، وفي حديث الرجل لامرأته، والمرأة لزوجها. رواه مسلم بهذه الزيادة.

واستنبط العلماء من هذا الحديث أنه إذا كان الكذب سيؤدي إلى دفع مفسدة أعظم، أو جلب مصلحة أكبر: صار جائزا حينئذ.

قال النووي- رحمه الله تعالى- في الأذكار: قد تظاهرت نصوص الكتاب والسنة على تحريم الكذب في الجملة، وهو من قبائح الذنوب، وفواحش العيوب. وإجماع الأمة منعقد على تحريمه مع النصوص المتظاهرة، فلا ضرورة إلى نقل أفرادها، وإنما المهم بيان ما يستثنى منه، والتنبيه على دقائقه... وقد ضبط العلماء ما يباح منه، وأحسن ما رأيته في ضبطه، ما ذكره الإمام أبو حامد الغزالي فقال: الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعا، فالكذب فيه حرام؛ لعدم الحاجة إليه، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب، ولم يمكن بالصدق، فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحا، وواجب إن كان المقصود واجبا، فإذا اختفى مسلم من ظالم، وسأل عنه، وجب الكذب بإخفائه، وكذا لو كان عنده أو عند غيره وديعة، وسأل عنها ظالم يريد أخذها، وجب عليه الكذب بإخفائها، حتى لو أخبره بوديعة عنده، فأخذها الظالم قهرا، وجب ضمانها على المودع المخبر، ولو استحلفه عليها، لزمه أن يحلف ويوري في يمينه، فإن حلف ولم يور، حنث على الأصح، وقيل: لا يحنث. وكذلك لو كان مقصود حرب، أو إصلاح ذات البين، أو استمالة قلب المجني عليه في العفو عن الجناية لا يحصل إلا بكذب، فالكذب ليس بحرام، وهذا إذا لم يحصل الغرض إلا بالكذب، والاحتياط في هذا كله أن يوري، ومعنى التورية أن يقصد بعبارته مقصودا صحيحا ليس هو كاذبا بالنسبة إليه، وإن كان كاذبا في ظاهر اللفظ. ولو لم يقصد هذا، بل أطلق عبارة الكذب، فليس بحرام في هذا الموضع.
قال أبو حامد الغزالي: وكذلك كل ما ارتبط به غرض مقصود صحيح له أو لغيره، فالذي له، مثل أن يأخذه ظالم، ويسأله عن ماله ليأخذه، فله أن ينكره، أو يسأله السلطان عن فاحشة بينه وبين الله تعالى ارتكبها، فله أن ينكرها ويقول: ما زنيت، أو ما شربت، مثلا... انتهى.

وبناء على ما سبق من كلام أهل العلم نفهم أن تحقيق مصلحة الدين عند الراهب، وعند الغلام تقتضي كذب الغلام، ليتعلم دون أن يلحق أي منهما ضرر. 

ولكن من استطاع أن يستغني عن الكذب باستعمال التورية والمعاريض، فليجتنب الكذب حينئذ؛ لقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: إن في معاريض الكلام ما يغني الرجل عن الكذب. رواه البيهقي في السنن الكبرى .
ومعنى المعاريض: أي الكلام الذي يظنه السامع شيئا، ويقصد المتكلم به شيئا آخر.

والله أعلم.

مواد ذات صلة