الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا الحديث قال الترمذي بعد روايته: حديث حسن صحيح.
وأمر تلك القسمة النبوية العظيمة النافعة، مرده إلى كل أحد بحسبه، فكل إنسان أبصر بالقدر الذي يكفيه من الطعام، وليس لذلك ضابط محدد ينتهي إليه جميع الناس، والمقصود ألا يزيد عن قدر الكفاية؛ لئلا يحصل له الضرر.
وقد بين ابن القيم أن مراتب الغذاء ثلاثة: فالأولى أن يأخذ بقدر حاجته وهو المشار إليه بقوله: بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه. والثانية بقدر الكفاية وهي ما زاد على ذلك، ولم يصل إلى حد الشبع المضر، والثالثة هي الفضلة: وهي ما زاد على هذا المقدار.
قال ابن القيم: ومراتب الغذاء ثلاثة: أحدها: مرتبة الحاجة. والثانية: مرتبة الكفاية. والثالثة: مرتبة الفضلة.
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه، فلا تسقط قوته، ولا تضعف معها، فإن تجاوزها فليأكل في ثلث بطنه، ويدع الثلث الآخر للماء، والثالث للنفس، وهذا من أنفع ما للبدن والقلب، فإن البطن إذا امتلأ من الطعام ضاق عن الشراب، فإذا ورد عليه الشراب ضاق عن النفس، وعرض له الكرب والتعب بحمله بمنزلة حامل الحمل الثقيل، هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب، وكسل الجوارح عن الطاعات، وتحركها في الشهوات التي يستلزمها الشبع. فامتلاء البطن من الطعام مضر للقلب والبدن.
هذا إذا كان دائما أو أكثريا. وأما إذا كان في الأحيان فلا بأس به، فقد شرب أبو هريرة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من اللبن حتى قال: (والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكا )، وأكل الصحابة بحضرته مرارا حتى شبعوا. انتهى.
وبه يعلم الجواب عن سؤالك الثاني، وأن شبع أبي هريرة المذكور ليس هو الغالب من حاله، ومن ثم فيجوز الشبع أحيانا، وإنما يكون الغالب على الشخص رعاية هذه القسمة.
وعن هذا الحديث أجوبة أخرى تأتي في كلام الحافظ ابن حجر -رحمه الله- ثم هل المراد رعاية الثلث على وجه التحديد، أو المراد التقريب لا التحديد؟ في ذلك قولان، استظهر ابن حجر أولهما.
قال -رحمه الله-: قال القرطبي في المفهم لما ذكر قصة أبي الهيثم، إذ ذبح للنبي صلى الله عليه وسلم ولصاحبيه الشاة فأكلوا حتى شبعوا.
وفيه دليل على جواز الشبع، وما جاء من النهي عنه محمول على الشبع الذي يثقل المعدة، ويثبط صاحبه عن القيام للعبادة، ويفضي إلى البطر والأشر والنوم والكسل. وقد تنتهي كراهته إلى التحريم بحسب ما يترتب عليه من المفسدة.
وذكر الكرماني تبعا لابن المنير: أن الشبع المذكور محمول على شبعهم المعتاد منهم، وهو أن الثلث للطعام والثلث للشراب والثلث للنفس. ويحتاج في دعوى أن تلك عادتهم إلى نقل خاص، وإنما ورد في ذلك حديث حسن أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه الحاكم من حديث المقدام بن معدي كرب "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن غلب الآدمي نفسه فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس".
قال القرطبي في "شرح الأسماء" لو سمع بقراط بهذه القسمة، لعجب من هذه الحكمة. وقال الغزالي قبله في باب كسر الشهوتين من "الإحياء" ذكر هذا الحديث لبعض الفلاسفة، فقال: ما سمعت كلاما في قلة الأكل أحكم من هذا.
ولا شك في أن أثر الحكمة في الحديث المذكور واضح، وإنما خص الثلاثة بالذكر؛ لأنها أسباب حياة الحيوان، ولأنه لا يدخل البطن سواها.
وهل المراد بالثلث التساوي على ظاهر الخبر، أو التقسيم إلى ثلاثة أقسام متقاربة؟ محل احتمال، والأول أولى. ويحتمل أن يكون لمح بذكر الثلث إلى قوله في الحديث الآخر: " الثلث كثير. انتهى.
والحاصل أن ضبط الثلث مرده إلى كل شخص، فلا يكثر من الطعام بحيث يضر به الشراب إذا دخل عليه، ولا يكثر من الشراب بحيث لا يجد مسلكا للنفس فيتضرر بذلك.
وأما حديث أبي هريرة في الشبع، فعنه الأجوبة المتقدمة.
والله أعلم.