مؤاخذة الممسوس بأفعاله

0 25

السؤال

شخص مستقيم تلبس به جن، وعند الرقية يسب الله سبا عظيما، فهل يرتفع عنه التكليف؟ فقد وجدت أن أحد طلبة العلم قتل قصاصا في السعودية؛ لأنه قتل زوجته تحت تأثير التلبس، ذكرها خالد الحبشي -راق من الرياض-، ولم أجد من ذكر ارتفاع التكليف من الفقهاء قديما وحديثا، فأرجو البيان، وشكرا جزيلا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فها هنا مقامان ينبغي التفريق بينهما، وهما:

إمكانية تلبس الجني بالأنسي، وتكلمه على لسانه بما لا يريده، ولا يعتقده، وبما لا يشعر به أصلا، وكذلك جره للمصروع، وفعله به ما لا يدري عنه المصروع، فهذا مقام.

والمقام الثاني هو: إثبات ذلك قضاء، بحيث يحكم القاضي بمقتضاه، فهذا مقام آخر. 

أما المقام الأول: فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -كما في مجموع الفتاوى-: دخول الجني في بدن الإنسان، ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة ... قال عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل قلت لأبي: إن أقواما يقولون: إن ‌الجني لا يدخل في بدن المصروع! فقال: "يا بني، يكذبون؛ هذا ‌يتكلم ‌على ‌لسانه". وهذا الذي قاله أمر مشهور؛ فإنه يصرع الرجل، فيتكلم بلسان لا يعرف معناه، ويضرب على بدنه ضربا عظيما، لو ضرب به جمل لأثر به أثرا عظيما، والمصروع مع هذا لا يحس بالضرب، ولا بالكلام الذي يقوله، وقد يجر المصروع، وغير المصروع، ويجر البساط الذي يجلس عليه، ويحول آلات، وينقل من مكان إلى مكان، ويجري غير ذلك من الأمور، من شاهدها، أفادته علما ضروريا بأن الناطق على لسان الإنسي، والمحرك لهذه الأجسام جنس آخر غير الإنسان.

وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول ‌الجني في بدن المصروع، وغيره، ومن أنكر ذلك، وادعى أن الشرع يكذب ذلك؛ فقد كذب على الشرع، وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك. اهـ. وراجع في ذلك الفتوى: 47534.

ولذلك؛ فمن حيث الديانة -لا القضاء-؛ نحكم حكما عاما بأن المصروع إن غلب على عقله، أو زال اختياره عن فعله، أو تكلم الجني على لسانه ... فهذا كله لا إثم عليه فيه، شأنه في ذلك شأن المجنون الذي رفع عنه القلم؛ بسبب زوال عقله، وانظر للفائدة الفتويين: 375118، 392623.

وأما المقام الثاني -وهو مقام القضاء- فهو مبني على التشاح في حقوق العباد، وإقامة البينات، والحكم بالظاهر: فإن قتل إنسان إنسانا؛ فالظاهر أنه هو القاتل، فإن ادعى أنه فعل ذلك دون اختياره بسبب السحر، كان ذلك على خلاف الظاهر، ولا نتحول عنه إلا ببينة، والبينة في مثل هذه الأمور الباطنة متعثرة؛ ولذلك نص بعض الفقهاء على أن القتل بالسحر، لا مدخل فيه للبينة، فلا يثبت إلا بالإقرار، قال النووي في منهاج الطالبين: ويثبت ‌القتل ‌بالسحر ‌بإقرار، لا ببينة. اهـ.

وقال الماوردي في "الحاوي الكبير": أما السحر، فهو ما يخفى فعله من ‌الساحر، ويخفى فعله في ‌المسحور، فلا يمكن أن يوصف في الدعوى على ‌الساحر، ولا تقوم به بينة في ‌المسحور، فإذا ادعى رجل على ساحر أنه سحر وليا له، فقتله بسحره، لم يستوصف عن السحر؛ لخفائه عليه، ولا يكلف البينة لامتناعها، فإذا امتنعا، رجع إلى سؤال الساحر هل سحر أو لم يسحر ... اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة