الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقبول توبة المرتد فيما بينه وبين الله، ليست محل نزاع، ولم يختلف فيها أحد من أهل العلم.
والآية التي أوردها السائل، هي ذاتها دليل على ذلك؛ فإن الله تعالى قال قبلها: كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين (86) أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (87) خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون (88) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم (89). فاستثنى الذين تابوا وأصلحوا، ثم قال بعدها: إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون (90). فعلق الحكم بزيادتهم في الكفر حتى يموتوا عليه؛ ولذلك قال بعدها: إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين {آل عمران:91}، قال الشوكاني في فتح القدير، وتبعه صاحب فتح البيان: فيه دليل على قبول توبة المرتد إذا رجع إلى الإسلام مخلصا، ولا خلاف في ذلك فيما أحفظ. اهـ.
وقال الخازن في لباب التأويل: إن قلت: قد وعد الله قبول التوبة ممن تاب، فما يعني قوله: {لن تقبل توبتهم}؟
قلت: اختلف المفسرون في معنى قوله: {لن تقبل توبتهم}:
- فقال الحسن، وعطاء، وقتادة، والسدي: لن تقبل توبتهم حين يحضرهم الموت، وهو وقت الحشرجة؛ لأن الله تعالى قال: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن}، فإن الذي يموت على الكفر لا تقبل توبته، كأنه قال: إن اليهود، أو الكفار، أو المرتدين الذين فعلوا ما فعلوا، ثم ماتوا على ذلك؛ لن تقبل توبتهم.
- وقال ابن عباس: إنهم الذين ارتدوا، وعزموا على إظهار التوبة؛ لستر أحوالهم والكفر في ضمائرهم.
- وقال أبو العالية: هم قوم تابوا من ذنوب عملوها في حال للشرك، ولم يتوبوا من الشرك؛ فإن توبتهم في حال الشرك، غير مقبولة.
- وقال مجاهد: لن تقبل توبتهم إذا ماتوا على الكفر.
- وقال ابن جرير الطبري: معنى {لن تقبل توبتهم} أي: مما ازدادوا من الكفر على كفرهم بعد إيمانهم، لا من كفرهم؛ لأن الله تعالى لما وعد أن يقبل التوبة عن عباده، وأنه قابل توبة كل تائب من كل ذنب؛ لقوله تعالى: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم}، علم أن المعنى الذي لا تقبل التوبة منه غير المعنى الذي تقبل التوبة منه؛ فعلى هذا فالذي لا تقبل التوبة منه هو الازدياد على الكفر بعد الكفر، لا يقبل الله منه توبة ما أقام على كفره؛ لأن الله تعالى لا يقبل عمل مشرك ما أقام على شركه، فإذا تاب من شركه وكفره وأصلح، فإن الله -كما وصف نفسه- غفور رحيم. اهـ.
وتعرض الرازي في تفسيره لمثل هذه القضية عن توبة المرتد، وقال: ثبت بالدليل أنه متى وجدت التوبة بشروطها؛ فإنها تكون مقبولة لا محالة. اهـ.
وبذلك يتضح أن قبول توبة المرتد فيما بينه وبين الله، إن هو تاب في حياته قبل الغرغرة: ليست محل شك، ولا إشكال.
ولذلك نؤكد أن المصاب بالوسواس القهري إشكاله في مرض الوسوسة، وليس في ذات مسألة المرتد؛ فيمكن أن ينتقل منها لإشكالات أخرى في الكفر، كالمسألتين اللتين ذكرهما السائل، وهما:
الشك في نبوة أحد الأنبياء؛ بسبب الجهل، فلما تبين له الدليل اتبعه، ليس هذا من الكفر في شيء، وكذلك التردد في تعيين معنى الأرضين السبع، ليست من الكفر في شيء.
وهكذا يبقى الموسوس أسيرا في حكمه على نفسه، أو على غيره بالكفر، وعدم قبول التوبة؛ وذلك بسبب الوسوسة، لا بسبب المسائل نفسها.
فعليه -إذن- أن يتعامل مع المرض نفسه، لا مع آحاد المسائل.
وراجع بشأن علاج الوسوسة الفتوى: 51601.
والله أعلم.