الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فاستئذان المرأة لزوجها عند خروجها من بيت الزوجية، ليس له علاقة بالرشد، ولا بالسفه؛ فهذا الحكم يعم جميع النساء والرجال، فلو كانت المرأة من أكمل الناس رشدا، وكان زوجها دونها في ذلك بكثير؛ لكان عليها أيضا أن تستأذنه عند خروجها من البيت؛ لأن ذلك يتعلق بحقه عليها، وليس لسفه فيها.
وهذا ليس من باب التضييق، وإنما هو من باب التنظيم، والحقوق المتبادلة، ومراعاة مصالح الأسرة، ولا سيما والمرأة أصلا -حتى قبل زواجها- مندوب لها القرار في البيت، وعدم الخروج إلا لحاجة.
فإن تزوجت وكفاها زوجها حاجتها، كان ذلك مؤكدا لقرارها في بيتها، وسببا لاستئذانه.
وأما إذا وجدت الحاجة، ولم يكفها زوجها، فلها أن تخرج بغير إذنه لحاجتها -كالطعام، والعلاج، والسؤال عما يلزمها في أمر دينها، ونحو ذلك-، قال القرطبي في تفسيره، عند قول الله تعالى: وقرن في بيوتكن [الأحزاب: 33]: معنى هذه الآية: الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى. هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة، على ما تقدم في غير موضع!؟ اهـ.
وقد جاء في السنة ما يؤكد هذا، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا استأذنت امرأة أحدكم، فلا يمنعها. رواه البخاري، ومسلم. والمقصود هنا استئذانها للخروج إلى المسجد؛ فدل على أن له منعها في الأصل، وهذا يقتضي وجوب استئذانه؛ ولذلك ذكر الحافظ ابن رجب في (فتح الباري) في فوائد هذا الحديث: أن المرأة لا تخرج بدون إذن زوجها، فإنه لو لم يكن له إذن في ذلك؛ لأمرها أن تخرج إن أذن أو لم يأذن ... ولا نعلم خلافا بين العلماء أن المرأة لا تخرج إلى المسجد إلا بإذن زوجها، وهو قول ابن المبارك، والشافعي، ومالك، وأحمد، وغيرهم. لكن من المتقدمين من كان يكتفي في إذن الزوج بعلمه بخروج المرأة من غير منع. اهـ.
وأما السؤال الثاني: فليس على ما ذكرت السائلة! وإنما التفريق بين الذكر والأنثى في حكم الانفراد بعد انتهاء الحضانة، فالذكر إذا بلغ ورشد، فله أن ينفرد عن أبويه، وأما الأنثى، فليس لها ذلك، والحكمة من ذلك ظاهرة جلية، قال ابن قدامة في المغني: لا تثبت الحضانة إلا على الطفل، والمعتوه، فأما البالغ الرشيد، فلا حضانة عليه، وإليه الخيرة في الإقامة عند من شاء من أبويه، فإن كان رجلا، فله الانفراد بنفسه؛ لاستغنائه عنهما، ويستحب أن لا ينفرد عنهما، ولا يقطع بره عنهما. وإن كانت جارية، لم يكن لها الانفراد، ولأبيها منعها منه؛ لأنه لا يؤمن أن يدخل عليها من يفسدها، ويلحق العار بها وبأهلها، وإن لم يكن لها أب، فلوليها وأهلها منعها من ذلك. اهـ.
وليس ذلك خاصا بالأنثى، بل كل من يخشى عليه الفتنة، أو الفساد، كما في حال الشاب الأمرد، قال الحجاوي في الإقناع: فإن كان رجلا، فله الانفراد بنفسه، إلا أن يكون أمرد، يخاف عليه الفتنة؛ فيمنع من مفارقتهما ..
وإن كانت جارية، فليس لها الانفراد. اهـ.
وقال الدردير في الشرح الكبير: إذا بلغ الذكر رشيدا، ذهب حيث شاء، إلا أن يخاف عليه فساد، أو هلاك؛ فيمنعه الأب، أو من ذكر. اهـ.
وقال الدسوقي في حاشيته عليه: الحاصل أنه متى بلغ عاقلا، زال عنه ولاية الأب، والوصي، والحاكم .. وحينئذ فلا يمنع من الذهاب حيث شاء، إلا أن يخاف عليه الفساد؛ لجماله مثلا، وإلا كان لأبيه، أو وصيه، أو الناس أجمعين منعه. اهـ.
وأما مسألة التأديب والمنع من الفساد بالقيد، أو الحبس، فقد نص بعض أهل العلم على ذلك في حق الأنثى، كما قال الحجاوي في الإقناع: على عصبة المرأة منعها من المحرمات، فإن لم تمنع إلا بالحبس، حبسوها. اهـ.
وليس المقصود بذلك قصر هذا الحكم على الأنثى دون الذكر، بل الغلام أيضا إذا خشي عليه الفساد، لم يمكن من الانفراد، وإذا احتاج إلى التأديب، أدب، قال الحصكفي في الدر المختار: والغلام إذا عقل، واستغنى برأيه، ليس للأب ضمه إلى نفسه، إلا إذا لم يكن مأمونا على نفسه، فله ضمه؛ لدفع فتنة أو عار، وتأديبه إذا وقع منه شيء. اهـ.
وقال ابن عابدين في حاشيته (رد المحتار): قوله: (فله ضمه) أي: للأب ولاية ضمه إليه. والظاهر أن الجد كذلك، بل غيره من العصبات -كالأخ، والعم-، ولم أر من صرح بذلك، ولعلهم اعتمدوا على أن الحاكم لا يمكنه من المعاصي، وهذا في زماننا غير واقع؛ فيتعين الإفتاء بولاية ضمه لكل من يؤتمن عليه من أقاربه، ويقدر على حفظه؛ فإن دفع المنكر واجب على كل من قدر عليه، لا سيما من يلحقه عاره.
وذلك أيضا من أعظم صلة الرحم، والشرع أمر بصلتها، وبدفع المنكر، ما أمكن، قال تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}. اهـ.
وبهذا يظهر الجواب على السؤال الثالث؛ فليس التأديب خاصا بالمرأة، ويكون في كل حال، ومع كل شخص بما يناسبه، وهو وسيلة من وسائل التربية عموما.
وأما السؤال الرابع عن استقلالية المرأة، فإن كان المراد بذلك ذمتها المالية؛ فهذا حق ثابت لها، لا فرق فيه بينها وبين الرجل، وراجعي في ذلك الفتوى: 9116.
ويمكننا القول بصفة عامة: إن الأصل هو التسوية بين المرأة والرجل في الأحكام الشرعية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إنما النساء شقائق الرجال. رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وأحمد، وحسنه الألباني.
ثم يستثنى من ذلك ما خصه الدليل، ويكون ذلك من آثار الفرق بينهما في الخلقة، والطبيعة، والإمكانات، كمسألة استئذان الزوج للخروج من بيت الزوجية، وكون العصمة في يد الرجل لا المرأة، ونحو ذلك.
والله أعلم.