السؤال
يقول الله تعالى في سورة الشعراء، في قصة رسول الله هود: "وتتخذون مصانع"، ونحن مأمورون أن نتخذ العبر من قصص القرآن.
وفي هذا العصر منشآت النفط، والبناء المتطاول، وخزانات الماء، تدل على الخلود، وتخدع عقول البشر، فالخلود في الأرض من أوهام الشطان للإنسان.
وفي آخر القصة جاء وصف المدد للبشر، في الآية: 133 عن الأنعام، والأبناء، والجنات؛ فلهذا يجب أن نرجع للوراء، فإن هذه الحضارة الصناعية توهم الإنسان بالخلود، وهذا أمر من الشيطان، ونسيان الآخرة من أوصاف المشركين.
وجاء في سوره فصلت: الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون.
وما أخبر به صلى الله عليه وسلم: يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن.
فإن هذه المصانع تجلب الفتن، واللازم أن نتقي الله في الأسباب والنعم المذكورة في الآيات.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فنشكر لك تواصلك معنا، ولم يظهر في كلامك قضية معينة تستشكلها، وتطلب الإفادة حولها.
ويمكنك الرجوع للاطلاع على كلام المفسرين حول هذه الآية إلى قسم التفسير من مكتبة موقعنا، وننقل لك كلام الطاهر ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير، حيث قال: رأى من قومه تمحضا للشغل بأمور دنياهم، وإعراضا عن الفكر في الآخرة، والعمل لها، والنظر في العاقبة، وإشراكا مع الله في إلهيته، وانصرافا عن عبادة الله وحده الذي خلقهم، وأعمرهم في الأرض، وزادهم قوة على الأمم؛ فانصرفت هماتهم إلى التعاظم، والتفاخر، واللهو، واللعب...
وأقبلوا على الملذات، واشتد الغرور بأنفسهم؛ فأضاعوا الجانب الأهم للإنسان، وهو جانب الدين، وزكاء النفس، وأهملوا أن يقصدوا من أعمالهم المقاصد النافعة، ونية إرضاء الله على أعمالهم؛ لحب الرئاسة، والسمعة...
فمن سابق أعمال عاد أنهم كانوا بنوا في طرق أسفارهم أعلاما ومنارات تدل على الطريق؛ كيلا يضل السائرون في تلك الرمال المتنقلة، التي لا تبقى فيها آثار السائرين.
واحتفروا وشيدوا مصانع للمياه، وهي الصهاريج، تجمع ماء المطر في الشتاء؛ ليشرب منها المسافرون، وينتفع بها الحاضرون في زمن قلة الأمطار، وبنوا حصونا وقصورا على أشراف من الأرض.
وهذا من الأعمال النافعة في ذاتها؛ لأن فيها حفظ الناس من الهلاك في الفيافي بضلال الطرق، ومن الهلكة عطشا إذا فقدوا الماء وقت الحاجة إليه، فمتى أريد بها رضا الله تعالى بنفع عبيده، كانت جديرة بالثناء عاجلا، والثواب آجلا.
فأما إذا أهمل إرضاء الله تعالى بها، واتخذت للرياء، والغرور بالعظمة، وكانوا معرضين عن التوحيد، وعن عبادة الله؛ انقلبت عظمة دنيوية محضة، لا ينظر فيها إلى جانب النفع، ولا تحث الناس على الاقتداء في تأسيس أمثالها، وقصاراها التمدح بما وجدوه منها؛ فصار وجودها شبيها بالعبث؛ لأنها خلت عن روح المقاصد الحسنة؛ فلا عبرة عند الله بها؛ لأن الله خلق هذا العالم؛ ليكون مظهر عبادته، وطاعته.
وكانوا أيضا في الإعراض عن الآخرة، والاقتصار على التزود للحياة الدنيا، بمنزلة من يحسبون أنفسهم خالدين في الدنيا.
والأعمال إذا خلت عن مراعاة المقاصد التي ترضي الله تعالى؛ اختلفت مشارب عامليها طرائق قددا على اختلاف الهمم، واجتلاب المصالح الخاصة؛ فلذلك أنكرها عليهم رسولهم بالاستفهام الإنكاري ...
ولما صار أثر البناء شاغلا عن المقصد النافع للحياة في الآخرة، نزل فعلهم المفضي إلى العبث منزلة الفعل الذي أريد منه العبث عند الشروع فيه ...
والمصانع: جمع مصنع، وأصله مفعل، مشتق من صنع، فهو مصدر ميمي وصف به للمبالغة، فقيل: هو الجابية المحفورة في الأرض.
وروي عن قتادة: مبنية بالجير، يخزن بها الماء، ويسمى صهريجا، وماجلا...
وقيل: إن المصانع قصور عظيمة اتخذوها؛ فيكون الإنكار عليهم متوجها إلى الإسراف في الإنفاق على أبنية راسخة مكينة، كأنها تمنعهم من الموت، فيكون الكلام مسوقا مساق الموعظة من التوغل في الترف، والتعاظم.
هذا ما استخلصناه من كلمات انتثرت في أقوال عن المفسرين، وهي تدل على حيرة من خلال كلامهم في توجيه إنكار هود على قومه عملين كانا معدودين في النافع من أعمال الأمم، وأحسب أن قد أزلنا تلك الحيرة. اهـ.
والله أعلم.