الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فبغض النظر عن صحة هذا الكلام في ذاته، فابن القيم -رحمه الله- يذكر هذا المعنى في معرض استدلاله، أو إيراده لاستدلال من يقول بفناء النار -وهو قول خاطئ-؛ فيقرر أن دوام عذاب النار إلى الأبد لا مصلحة فيه -لا للمعاقب، ولا للمعاقب، ولا لغيرهما-؛ فلزم أنه يبقى إلى أجل يوافق الحكمة، وهي إنقاء أهل النار من الكفار من دنس كفرهم؛ فتبقى النار إلى هذا الأجل، ثم تفنى؛ فيكون عذابها مصلحة للمعاقب؛ لما يترتب عليها من زوال خبثه، ومن ثم؛ فناء عذابه!
وقد دندن ابن القيم حول هذا المعنى في عدة مواضع من كتبه، منها كتاب: (الصواعق المرسلة)، فقال -كما في مختصر البعلي-: العقوبة الدائمة إما أن تكون مصلحة للمعاقب، أو للمعاقب، أو لهما، أو لغيرهما، أو لا مصلحة فيها البتة، والأقسام كلها باطلة:
أما المعاقب؛ فإنه إنما تكون العقوبة مصلحة في حقه، إذا كان محتاجا إليها؛ لشفاء غيظه، وإطفاء نار غضبه التي يتأذى ببقائها. والله تعالى منزه عن ذلك كله، فلم يبلغ العباد ضره فيضروه، ولا نفعه فينفعوه ...
وأما أنه لا مصلحة للمعاقب، ولا لغيره في ذلك؛ فظاهر؛ فتعين القسم الأخير، وهو أنه لا مصلحة فيها، وما كان كذلك؛ فهو عبث، يتعالى الله عنه ...
وهذا بخلاف ما إذا قيل: وضعت العقوبة لمصلحة، وتقدرت بقدرها، فإذا حصلت الحكمة، والغاية المطلوبة منها، وترتب المصلحة التي قصدت بها؛ عاد الأمر إلى الرحمة، والجود. اهـ.
وتناول بيان سعة رحمة الله، وأنها شاملة، وأنها تسبق غضبه، وتغلبه، ثم قال: وكل هذا ينفي أن يخلق خلقا لمجرد عذابه السرمدي، الذي لا انتهاء له، ولا انقضاء، لا لحكمة مطلوبة، إلا لمجرد التعذيب، والألم الزائد على الحد، فما قدر الله حق قدره من نسب إليه ذلك، بخلاف ما إذا خلقهم ليرحمهم، ويحسن إليهم، وينعم عليهم، فاكتسبوا ما أغضبه وأسخطه، فأصابهم من عذابه وعقوبته بحسب ذلك العارض الذي اكتسبوا، ثم اضمحل سبب العقوبة، وزال، وعاد مقتضى الرحمة؛ فهذا هو الذي يليق برحمة أرحم الراحمين، وحكمة أحكم الحاكمين ...
وهذا يدل على أنها خلقت لمصلحة من دخلها؛ لتذيب فضلاته، وأوساخه، وأدرانه، وتطهره من خبثه، ونجاسته، كالكير الذي يخرج خبث الجواهر المنتفع بها، ولمصلحة من لم يدخلها؛ ليردعه ذكرها، والخبر عنها عن ظلمه، وغيه؛ فليست الداران عند الله سواء في الأسباب، والغايات، والحكم، والمصالح.
يوضح ذلك أن الله تعالى لا يعذب أحدا إلا لحكمة، ولا يضع عذابه إلا في المحل الذي يليق به ... وكيف يخلو أعظم العقوبات عن حكمة، ومصلحة، ورحمة، إن مصدرها عن تقدير أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين. والجنة طيبة، لا يدخلها إلا طيب؛ ولهذا يدخل النار من أهل التوحيد من فيه خبث، وشر؛ حتى يتطهر فيها، ويطيب ... ومعلوم أن النفوس الشريرة الظالمة المظلمة الأثيمة، لا تصلح لتلك الدار التي هي دار الطيبين، ولو ردت إلى الدنيا قبل العذاب؛ لعادت لما نهيت عنه، فلا تصلح لدار السلام التي سلمت من كل عيب، وآفة؛ فاقتضت الحكمة تعذيب هذه النفوس عذابا يطهر نفوسهم من ذلك الشر، والخبث، ويكون مصلحة لهم، ورحمة بهم ذلك العذاب، وهذا معقول في الحكمة، أما خلق النفوس لمجرد العذاب السرمدي لا لحكمة، ولا لمصلحة؛ فتأباه حكمة أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين. اهـ.
وقال بعد ذلك: ولنرجع إلى المقصود، وهو أن الذين قالوا: عذاب الكفار مصلحة لهم، ورحمة لهم، حاموا حول هذا المعنى، ولم يقتحموا لجته، وإلا فأي مصلحة لهم في عذاب لا ينقطع، وهو دائم بدوام الرب تعالى، فتأمل هذا الوجه حق التأمل، وأعطه حقه من النظر، واجمع بين ذلك وبين معاني أسمائه وصفاته، وما دل عليه كلام الله، وكلام رسوله، وما قاله الصحابة، ومن بعدهم، ولا تبادر إلى القول بلا علم، ولا إلى الإنكار، فإن أسفر لك صبح الصواب، وإلا فرد الحكم إلى ما رده الله إليه بقوله: {إن ربك فعال لما يريد}، وتمسك بقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وقد ذكر دخول أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ووصف حالهم، ثم قال: "ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء". اهـ.
وفي هذا الكلام الأخير نوع توقف، أو بيان للإشكال الكبير في مسألة فناء النار!
وقد اضطرب فيها قول ابن القيم نفسه، فقوى هذا القول، وتوسع في الاستدلال له في بعض كتبه، ككتاب: الصواعق الذي نقلنا منه، وكتاب: (حادي الأرواح)، وكتاب: (شفاء العليل).
وله قول آخر، وهو الموافق لمذهب أهل السنة في أبدية النار، وعدم فنائها، وذكر ذلك في كتابيه: (الوابل الصيب) و(طريق الهجرتين). وراجع في ذلك الفتاوى: 64739، 311911، 141026، 322054.
والله أعلم.