الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلم أن الفطرة التي يولد المرء عليها هي فطرة الله التي فطر الناس عليها، المراد بها السلامة من الاعتقادات الباطلة، والقبول للعقائد الصحيحة، بحيث لو ترك الإنسان على الفطرة من غير إفساد أو تغيير، لما كان إلا مسلما. قال الله تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون {الروم:30}،
ولا يلزم من كون الناس مولودين على الفطرة، أن يكونوا منذ الولادة معتقدين للإسلام، عالمين به، مريدين له، بل المراد أن الفطرة السليمة تستلزم الإقرار بالخالق ومحبته، وإخلاص الدين له.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: أما قوله صلى الله عليه وسلم: {كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه}. فالصواب أنها فطرة الله التي فطر الناس عليها وهي فطرة الإسلام، وهي الفطرة التي فطرهم عليها يوم قال: {ألست بربكم قالوا بلى}. وهي السلامة من الاعتقادات الباطلة، والقبول للعقائد الصحيحة.
فإن حقيقة "الإسلام" أن يستسلم لله؛ لا لغيره، وهو معنى لا إله إلا الله. وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فقال: {كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟} بين أن سلامة القلب من النقص كسلامة البدن، وأن العيب حادث طارئ. وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن الله: {إني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا} ...
ومثل الفطرة مع الحق: مثل ضوء العين مع الشمس، وكل ذي عين لو ترك بغير حجاب لرأى الشمس.
والاعتقادات الباطلة العارضة من تهود وتنصر وتمجس: مثل حجاب يحول بين البصر ورؤية الشمس.
وكذلك أيضا كل ذي حس سليم يحب الحلو، إلا أن يعرض في الطبيعة فساد يحرفه حتى يجعل الحلو في فمه مرا.
ولا يلزم من كونهم مولودين على الفطرة أن يكونوا حين الولادة معتقدين للإسلام بالفعل، فإن الله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا.
ولكن سلامة القلب وقبوله وإرادته للحق: الذي هو الإسلام، بحيث لو ترك من غير مغير لما كان إلا مسلما.
وهذه القوة العلمية العملية التي تقتضي بذاتها الإسلام ما لم يمنعها مانع، هي فطرة الله التي فطر الناس عليها. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضا في تعارض العقل والنقل: وإذا قيل: إنه ولد على فطرة الإسلام، أو خلق حنيفا ونحو ذلك. فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده. فإن الله تعالى يقول: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا}، ولكن فطرته مقتضية موجبة لدين الإسلام، لمعرفته ومحبته.
فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه ومحبته وإخلاص الدين له، وموجبات الفطرة ومقتضاها تحصل شيئا بعد شيء، بحسب كمال الفطرة، إذا سلمت عن المعارض.
وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك أكثر من غيره، كما أن كل مولود يولد فإنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية والأشربة، فيشتهي اللبن الذي يناسبه.
وهذا من قوله تعالى: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى}، وقوله: {الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى}، فهو -سبحانه- خلق الحيوان مهتديا إلى طلب ما ينفعه، ودفع ما يضره، ثم هذا الحب والبغض يحصل فيه شيئا فشيئا بحسب حاجته.
ثم قد يعرض لكثير من الأبدان ما يفسد ما ولد عليه من الطبيعة السليمة، والعادة الصحيحة. اهـ.
فالفطرة لا تنافي الحاجة إلى بعث الرسل، فالخلق لا يولدون عارفين بتفاصيل الإسلام، وما أكثر ما يعرض للفطر من أسباب الفساد والتغيير، فمن رحمة الله -سبحانه- أن تفضل على الخلق بإرسال الرسل، وإنزال الكتب من أجل تكميل الفطر، وإصلاحها مما يعرض لها من الفساد والتغيير.
وراجع المزيد في الفتويين التاليتين: 366313 - 437773.
والله أعلم.