السؤال
قرأت أن كل القراءات القرآنية العشر متواترة، وثابتة عن الرسول، وأن الصحابة -رضوان الله عليهم- كانو على علم بالأحرف المختلفة.
لكن هناك ما أثار استفهامي -وأنا أقرأ تفسير الطبري لسورة الكهف 86- يقول الطبري: "حدثنا الحسين بن الجنيد، قال: ثنا سعيد بن سلمة، قال: ثنا إسماعيل بن علية، عن عثمان بن حاضر، قال: سمعت عبد الله بن عباس يقول: قرأ معاوية هذه الآية، فقال: (عين حامية) فقال ابن عباس: إنها عين حمئة، قال: فجعلا كعبا بينهما، قال: فأرسلا إلى كعب الأحبار، فسألاه، فقال كعب: أما الشمس فإنها تغيب في ثأط، فكانت على ما قال ابن عباس، والثأط: الطين."، وفي موضع آخر ذكر أن الخلاف كان بين عبد الله بن عباس وعمرو بن العاص على نفس الوجه.
أليس من المفترض أن كلاهما صحابي، وقد سمعا الآية من النبي مباشرة، ويدركان اختلاف أحرف القرآن؟ فكيف اختلفا لدرجة أن يجعلا كعب الأحبار حكما بينهما؟ حيث قيل لي إن سبب اختلاف الأمصار في القرآن هو جهلهم بالأحرف السبعة، بينما كان الصحابة على دراية بها.
كذلك اختلفت أيضا القراءات السبع في قراءتها. فقرأ بعضهم كحمزة والكسائي وغيرهم "حامية"، بينما قرأ الآخرون كنافع وحفص بقراءة عاصم والآخرون "حمئة". وكيف يمكن أن يختلف راويان لنفس القارئ في روايتهما؟ ففي قراءة نفس الآية وجدت أن حفصا قرأها "حمئة" و شعبة قرأها "حامية"، بينما أنه من المفترض أن كلاهما يقرأ على قراءة عاصم، وكلاهما تلميذه، فكيف اختلفا؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن خفاء بعض أوجه القراءات على بعض الصحابة أمر واقع، ولا يقدح في ثبوت تلك الأوجه، ولا في صحتها.
واختلاف الصحابة في ثبوت بعض الأحرف مثل (عين حمئة) أو نحوها، لا يقتضي نفيهم وإنكارهم لأصل وقوع التعدد في أوجه القراءة في القرآن الكريم من حيث الجملة. وهذا ظاهر.
وأما تواتر القراءات السبع أو العشر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: فهو الصحيح المشهور عند جماهير العلماء، ونازع قلة من العلماء في تواترها -مع جزمهم بثبوتها.
جاء في شرح مختصر الروضة للطوفي: اعلم أن القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان: فالقرآن هو الوحي النازل على محمد - صلى الله عليه وسلم - للبيان والإعجاز. والقراءات: هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور، في كمية الحروف، أو كيفيتها من تخفيف أو تثقيل، وتحقيق أو تسهيل، ونحو ذلك، بحسب اختلاف لغات العرب، ولا نزاع بين المسلمين في تواتر القرآن. أما القراءات؛ فوقع النزاع فيها، والمشهور أنها متواترة، وقال بعض الناس: ليست متواترة...
ثم قال: تنبيه: اعلم أني سلكت في هذه المسألة طريقة الأكثرين في نصرة أن القراءات متواترة، وعندي في ذلك نظر، والتحقيق أن القراءات متواترة عن الأئمة السبعة، أما تواترها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الأئمة السبعة؛ فهو محل نظر، فإن أسانيد الأئمة السبعة، بهذه القراءات السبعة، إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- موجودة في كتب القراءات، وهي نقل الواحد عن الواحد، لم تستكمل شروط التواتر، ولولا الإطالة والخروج عما نحن فيه، لذكرت طرفا من طرقهم، ولكن هي موجودة في كتب العراقيين، والحجازيين، والشاميين، وغيرهم، فإن عاودتها من مظانها وجدتها كما وصف لك.
وأبلغ من هذا أنها في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم تتواتر بين الصحابة، بدليل حديث عمر لما خاصم هشام بن حكيم بن حزام، حيث خالفه في قراءة سورة الفرقان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولو كانت متواترة بينهم لحصل العلم لكل منهم بها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم لم يكن عمر ليخاصم في ما تواتر عنده.
واعلم أن بعض من لا تحقيق عنده ينفر من القول بعدم تواتر القراءات، ظنا منه أن ذلك يستلزم عدم تواتر القرآن، وليس ذلك بلازم، لما ذكرناه أول المسألة، من الفرق بين ماهية القرآن والقراءات، والإجماع على تواتر القرآن. اهـ.
وأما قولك: (حيث قيل لي: إن سبب اختلاف الأمصار في القرآن هو جهلهم بالأحرف السبعة، بينما كان الصحابة على دراية بها) فباطل بلا ريب، وهل القراء السبعة، أو العشرة يسندون قراءاتهم إلى غير الصحابة -رضي الله عنهم-؟
ثم إن العلم بالأحرف السبعة يقتضي زيادة الاختلاف في أوجه القراءة، لا نفي الاختلاف فيها!
فالقراءات العشر تشتمل على بعض الأحرف السبعة لا على جميعها، كما هو مذهب جمهور العلماء.
وراجع حول القراءات، وتواترها، والأحرف السبعة، والعلاقة بينها وبين القراءات الفتاوى: 44576 - 251764 - 299656 - 207730 - 215083.
وأما اختلاف راويي أحد القراء في بعض أوجه القراءة، فلا إشكال فيه، وهو محمول على أن القارئ قد أقرأ كل راو بوجه من تلك الأوجه.
والله أعلم.