الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن الأدلة الشرعية متضافرة على التشديد في شأن العلاقة بين الجنسين، -وذلك لما جبل عليه بنو آدم من ميل الجنسين إلى بعضهما- وهذا من محاسن الشريعة، ومظاهر كمالها، ومراعاتها للفطرة.
وأما جعل العلاقة بين الرجال والنساء غير المحارم علاقة عادية، كعلاقة الرجل بالرجل، أو علاقة المرأة بالمرأة، فمن المقطوع به في الشرع بطلانه، والنهي عنه.
والأدلة على ذلك كثيرة جدا، منها قوله تعالى: وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن {الأحزاب:53}.
وهذه الآية وإن كان لفظها خاصا بأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، إلا أنه عام في نساء المسلمين والحكمة في ذلك كما هي مبيمة في الآية : أن تكون قلوب كل من الجنسين في غاية الطهارة من أدناس الريبة.
ومن الأدلة كذلك قوله سبحانه: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون {النور:30}.
فالآية تأمر كل واحد من الجنسين بغض البصر عن الآخر، وتبين كون ذلك الأدب أزكى لهم، أي أطهر من الريبة، وفي الآية تهديد لمن لم يمتثل للأمر بأنه سبحانه خبير بما يصنع، لا يخفى عليه منه شيء.
ولا شك أن الصداقة بين الجنسين وسيلة لإطلاق النظر، وما يجر إليه ذلك من عدم حفظ الفرج.
فالنظر بالبصر هو السبب في الزنا بالفرج، لأن النظر بريد الزنا.
ومن الأدلة كذلك قوله سبحانه: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا {الإسراء:32}.
فلم يقتصر في النهي عن فعل الزنا فقط، بل نهى عن مقاربة الزنا، وهذا أبلغ، ليشمل النهي عن كل ما يؤدي إلى الزنا ويفضي إليه.
قال السعدي في تفسيره: والنهي عن قربانه أبلغ من النهي عن مجرد فعله؛ لأن ذلك يشمل النهي عن جميع مقدماته ودواعيه فإن: "من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه" خصوصا هذا الأمر الذي في كثير من النفوس أقوى داع إليه. اهـ.
والقاعدة الشرعية هي وجوب سد ذرائع الفتنة ما دام لم يعارضها مصلحة راجحة، ولا يماري عاقل منصف أن المصادقة بين الجنسين ذريعة قوية للوقوع في الفواحش.
قال ابن تيمية -كما في مجموع الفتاوى-: الراجح في مذهب الشافعي وأحمد أن النظر إلى وجه الأجنبية من غير حاجة لا يجوز وإن كانت الشهوة منتفية؛ لكن لأنه يخاف ثورانها؛ ولهذا حرم الخلوة بالأجنبية؛ لأنه مظنة الفتنة.
والأصل أن كل ما كان سببا للفتنة فإنه لا يجوز، فإن الذريعة إلى الفساد يجب سدها، إذا لم يعارضها مصلحة راجحة.
ولهذا كان النظر الذي قد يفضي إلى الفتنة محرما، إلا إذا كان لحاجة راجحة مثل نظر الخاطب والطبيب وغيرهما، فإنه يباح النظر للحاجة مع عدم الشهوة. وأما النظر لغير حاجة إلى محل الفتنة فلا يجوز. اهـ.
ومن أدلة السنة: حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إياكم والدخول على النساء. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله؛ أفرأيت الحمو. قال: الحمو الموت. متفق عليه.
فإذا كان مجرد الدخول على النساء منهيا عنه، فما الشأن في مصاحبتهن وطول مجالستهن؟
قال الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان: وظاهر الحديث التحذير من الدخول عليهن ولو لم تحصل الخلوة بينهما، وهو كذلك، فالدخول عليهن والخلوة بهن كلاهما محرم تحريما شديدا بانفراده.
وقال: فتأملوا قوله في دخول قريب الزوج على زوجته: الحمو الموت لتدركوا أن اختلاط الرجال الأجانب بالنساء الأجنبيات أنه هو الموت. اهـ.
ومنها: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها. وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها. أخرجه مسلم.
قال النووي في شرحه لمسلم: وإنما فضل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال؛ لبعدهن من مخالطة الرجال، ورؤيتهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم، وسماع كلامهم ونحو ذلك. وذم أول صفوفهن لعكس ذلك. اهـ.
فإذا كانت أشرف البقاع المساجد، وأشرف العبادات الصلاة حث الشرع على المباعدة فيها بين الجنسين، فكيف يقال بجواز الاختلاط والصداقة بين غير المحارم من الرجال والنساء؟
هذه نبذة يسرة من الأدلة، فالفتوى تضيق عن استقصاء الأدلة في منع المصادقة بين الرجال والنساء غير المحارم.
والله أعلم.