الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فهذا القول الذي سبق أن ذكرناه في الفتوى المشار إليها برقم: 98509 وما يترتب عليه من كون حجة أبي بكر الصديق سنة تسع وقعت في ذي القعدة، لا في ذي الحجة: هو ما اختاره طائفة من الأئمة، وأهل العلم، من التابعين فمن بعدهم.
قال ابن القيم في زاد المعاد: هل كانت حجة الصديق -رضي الله عنه- في ذي الحجة، أو وقعت في ذي القعدة من أجل النسيء الذي كان الجاهلية يؤخرون له الأشهر ويقدمونها؟ على قولين. والثاني: قول مجاهد وغيره. اهـ.
وروى ابن أبي خيثمة في التاريخ الكبير، وأبو زرعة الدمشقي في تاريخه، وابن منده في المستخرج، عن عكرمة بن خالد المخزومي: أن أبا بكر حج في ذي القعدة، فلما كان العام المقبل حج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذي الحجة، فقام فخطب الناس فقال: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض....
وأقدم من ذكر هذا القول من الشراح هو الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في غريب الحديث، وتبعه على ذلك أكثر الشراح، كابن بطال، والخطابي، والمازري، وعياض، والنووي، والعيني، والطيبي، وغيرهم.
وقال الحافظ ابن عبد البر في التمهيد: افتتح النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة سنة ثمان في رمضان، ولم يحج حجته التي لم يحج بعد فرض الحج عليه غيرها، إلا في سنة عشر، وأمر عتاب بن أسيد إذ ولاه مكة سنة ثمان أن يقيم الحج للناس، وبعث أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- سنة تسع، فأقام للناس الحج، وحج هو -صلى الله عليه وسلم- سنة عشر من الهجرة، فصادف الحج في ذي الحجة، وأخبر أن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وأن الحج في ذي الحجة إلى يوم القيامة، إبطالا لما كانت العرب في جاهليتها عليه في تأخير الحج للنسيء الذي كانوا ينسؤونه له عاما بعد عام، فأنزل الله تعالى: إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ـ الآية، نقلت ذلك كله الكافة، لم يختلفوا فيه، واستقر الحج من حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذي الحجة إلى يوم القيامة -إن شاء الله-. اهـ.
وذكر أبو العباس القرطبي في المفهم الخلاف في السنة التي فرض فيها الحج، وصحح أنه فرض سنة تسع، وقال: لأن فتح مكة كان في التاسع عشر من رمضان سنة ثماني سنين من الهجرة، وحج بالناس في تلك السنة عتاب بن أسيد، ووقف بالمسلمين، ووقف المشركون على ما كانوا يفعلون في الجاهلية، فلما كانت سنة تسع فرض الحج، ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أبا بكر فحج بالناس تلك السنة، ثم أتبعه علي بن أبي طالب بسورة براءة، فقرأها على الناس في الموسم، ونبذ للناس عهدهم، ونادى في الناس: ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ووافقت حجة أبي بكر في تلك السنة أن كانت في شهر ذي القعدة؛ على ما كانوا يديرون الحج في كل شهر من شهور السنة، فلما كانت سنة عشر حج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حجته المسماة: بحجة الوداع، على ما يأتي في حديث جابر وغيره، ووافق النبي -صلى الله عليه وسلم- تلك السنة أن وقع الحج في ذي الحجة، في زمانه ووقته الأصلي الذي فرضه الله فيه، ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض. اهـ.
وقال القرطبي في موضع آخر: اختلف في معنى هذا اللفظ، يعني: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض؛ على أقوال كثيرة، وأشبه ما فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: قاله إياس بن معاوية، وذلك: أن المشركين كانوا يحسبون السنة اثني عشر شهرا وخمسة عشر يوما، فكان الحج يكون في رمضان، وفي ذي القعدة، وفي كل شهر من السنة بحكم استدارة الشهر بزيادة الخمسة عشر يوما، فحج أبو بكر -رضي الله عنه- سنة تسع في ذي القعدة، بحكم الاستدارة، ولم يحج النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما كان في العام المقبل وافق الحج ذا الحجة في العشر، ووافق ذلك الأهلة، وقد روي أن أبا بكر إنما حج في ذي الحجة.
الثاني: روي عن ابن عباس أنه قال: كانوا إذا كانت السنة التي ينسأ فيها، قام خطيبهم وقد اجتمع إليه الناس يوم الصدر فقال: أيها الناس، إني قد نسأت العام صفرا الأول، يعني: المحرم، فيطرحونه من الشهور، ولا يعتدون به، ويبدؤون العدة، فيقولون لصفر وشهر ربيع الأول: صفران، ولربيع الآخر وجمادى الأولى: شهرا ربيع، ولجمادى الآخرة ورجب: جماديان، ولشعبان: رجب، ولرمضان: شعبان، وهكذا إلى محرم، ويبطلون من هذه السنة شهرا، فيحجون في كل شهر حجتين، ثم ينسأ في السنة الثالثة صفرا الأول في عدتهم، وهو الآخر في العدة المستقيمة، حتى تكون حجتهم في صفر حجتين، وكذلك الشهور كلها حتى يستدير الحج في كل أربع وعشرين سنة إلى المحرم الشهر الذي ابتدؤوا فيه النساء، ونحوه، قال ابن الزبير، إلا أنه قال: يفعلون ذلك في كل ثلاث سنين، يزيدون شهرا، قيل: وكانوا يقصدون بذلك موافقة شهور العجم لشهور الأهلة حتى تأتي الأزمان واحدة.
الثالث: قيل: كانت العرب تحج عامين في ذي القعدة، وعامين في ذي الحجة، فصادفت حجة أبي بكر - رضي الله عنه - ذا القعدة من السنة الثانية، وصادفت حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- ذا الحجة بالاستدارة.
والأشبه القول الأول؛ لأنه هو الذي استفيد نفيه من قوله -صلى الله عليه وسلم-: إن الزمان قد استدار أي: زمان الحج عاد إلى وقته الأصلي؛ الذي عينه الله تعالى له يوم خلق السماوات والأرض، بأصل المشروعية التي سبق بها علمه، ونفذ بها حكمه، ثم قال: السنة اثنا عشر شهرا، ينفي بذلك الزيادة التي زادوها في السنة؛ وهي الخمسة عشر يوما بتحكمهم، ثم هذا موافق لقوله تعالى: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ـ فتعين الوقت الأصلي، وبطل التحكم الجهلي. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – كما في مجموع الفتاوى: كانت العرب في جاهليتها قد غيرت ملة إبراهيم بالنسيء الذي ابتدعته، فزادت به في السنة شهرا جعلتها كبيسا؛ لأغراض لهم، وغيروا به ميقات الحج والأشهر الحرم حتى كانوا يحجون تارة في المحرم، وتارة في صفر، حتى يعود الحج إلى ذي الحجة، حتى بعث الله المقيم لملة إبراهيم، فوافى حجه -صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع، وقد استدار الزمان كما كان، ووقعت حجته في ذي الحجة، فقال في خطبته المشهورة في الصحيحين وغيرهما: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض: السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، وكان قبل ذلك الحج لا يقع في ذي الحجة حتى حجة أبي بكر سنة تسع كان في ذي القعدة، وهذا من أسباب تأخير النبي -صلى الله عليه وسلم- الحج. اهـ.
وانظر الفتوى: 173903.
والمقصود أن هذا قول معتبر من أقوال أهل العلم، ذهب إليه كثير منهم، أو أكثرهم.
وأما إشكال وقوع حجة أبي بكر في شهر ذي العقدة، وما يترتب على ذلك من توهم فساد العبادة، فقد أجاب عنه القائلون بذلك من أهل العلم، كما قال ابن الجوزي في كشف المشكل من حديث الصحيحين: على هذه الأقوال اعتراض -يعني في تفسير يوم الحج الأكبر: وهو أن يقال: إنما حج أبو بكر في ذي القعدة، وحج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعده في ذي الحجة، وقال: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، فكيف يكون أذان أبي بكر يوم عرفة، أو يوم النحر على ما ذكرتم؟ والجواب من وجهين:
أحدهما: أن القولين قد رويا، وليس أحدهما بأولى من الآخر، أعني بالقولين: أن أبا بكر نادى يوم عرفة، أو يوم النحر، وأنه حج في ذي القعدة.
والثاني: أن يكون سمي يوم حج أبي بكر يوم الحج الأكبر، لأنهم جعلوه مكان يوم النحر، فسمي باسم ما حل محله. اهـ.
وقال ابن رشد في البيان والتحصيل: الصحيح ما ذهب إليه مالك أن أبا بكر أقام للناس الحج بعد أن فرض قبل أن ينسخ النسيء، فكانت حجته تلك في ذي القعدة شرعا ودينا، وأخر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحج ذلك العام من أجل العراة الذين كانوا يطوفون بالبيت، حتى يعهد إليهم في ذلك، على ما تواترت به الآثار، إلى أن حج في سنة عشر في ذي الحجة، ونسخ النسيء، فثبت الحج في ذي الحجة إلى يوم القيامة. اهـ.
وقوله: فكانت حجته تلك في ذي القعدة شرعا ودينا: فيها جواب آخر عن الإشكال، بأن هذا كان هو المشروع في هذه السنة، وهذا قريب من حكم الخطأ في رؤية الهلال، وتأخر أو تقدم الصوم، أو الوقوف بعرفة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى: في السنن عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون. أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وصححه، وعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس. رواه الترمذي، وعلى هذا العمل عند أئمة المسلمين كلهم، فإن الناس لو وقفوا بعرفة في اليوم العاشر خطأ أجزأهم الوقوف بالاتفاق، وكان ذلك اليوم يوم عرفة في حقهم، ولو وقفوا الثامن خطأ؛ ففي الإجزاء نزاع، والأظهر صحة الوقوف أيضا، وهو أحد القولين في مذهب مالك، ومذهب أحمد، وغيره. قالت عائشة -رضي الله عنها: إنما عرفة اليوم الذي يعرفه الناس. اهـ.
والله أعلم.