السؤال
أسأل عن الرسم العثماني التوقيفي في المصحف. كيف أقره الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو أمي؟ وكيف عدل ما كان ينبغي تعديله في كتابة الآيات، إن أخطأ الصحابة، وخطوا بما لم يكن كما أراده الله؟ أقصد كيف أقر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصحح الكتابة، حتى أصبح المصحف يكتب على الرسم الذي هو عليه الآن، وهو أمي؟
وجزاكم الله عنا كل خير.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن أمية الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثابتة، وهي معجزة في حقه -صلى الله عليه وسلم-، وقد ثبتت في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي وردت في الكتب السابقة، كما قال -جل وعلا-: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والأنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون {الأعراف:157}، وقال -تعالى-: وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون {العنكبوت:48}.
وأما عن تدخله -صلى الله عليه وسلم- في كتابة المصحف، وتصحيحه للصحابة، فلم نر ما يثبته في كتب السنة، وإنما ينقله بعض من ألفوا في رسم القرآن غير مسند، فقد نقله المارغني، والضباع، عن عبد العزيز الدباغ من دون ذكر للسند، وقد أشار إلى أن ذلك مما فتح الله -تعالى- به على رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
قال المارغني في دليل الحيران على مورد الظمآن (ص: 64): ذكر صاحب الإبريز عن شيخه العارف بالله سيدي عبد العزيز الدباغ أنه قال: رسم القرآن سر من أسرار المشاهدة، وكمال الرفعة، وهو صادر من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وليس للصحابة، ولا لغيرهم في رسم القرآن، ولا شعرة واحدة، وإنما هو توقيف من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على الهيئة المعروفة بزيادة الألف، ونقصانها، ونحو ذلك؛ لأسرار لا تهتدي إليها العقول، إلا بالفتح الرباني، وهو سر من الأسرار خص الله به كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية، فكما أن نظم القرآن معجز، فرسمه معجز أيضا. انتهى.
ولكن اتباع رسم المصحف واجب؛ لإجماع الصحب؛ والسلف الأول على كتابته بهذه الطريقة، وقد نص جمع من أهل العلم على منع مخالفتهم فيه، فقد قال الزركشي في البرهان: قال أشهب سئل مالك -رحمه الله-، هل يكتب المصحف على ما أخذه الناس من الهجاء؟ فقال: لا إلا على الكتبة الأولى، رواه أبوعمرو الداني في المقنع، ثم قال: ولا مخالف له من علماء الأمة. انتهى. ونقل السيوطي في الاتقان عن الإمام أحمد أنه قال: تحرم مخالفة خط مصحف عثمان، أي رسمه في ياء، أو واو، أو ألف، أو غير ذلك. انتهى.
قال الدكتور عبد القيوم السندي في جمع القرآن الكريم في عهد الخلفاء الراشدين بعد كلام طويل له في المسألة: أما وجوب الالتزام بالرسم العثماني، فأقوى دليل عليه هو إجماع الصحابة أولا، ثم إجماع الأمة الإسلامية منذ العصور المتقدمة.... اهـ.
وهذا الاستشكال الذي ذكر السائل من حجج القائلين بأن الرسم ليس توقيفيا، وإنما هو اجتهاد من الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-، وممن فصل القول في ذلك الشيخ محمد طاهر الكردي، حيث يقول في كتابه: تاريخ القرآن الكريم (ص: 101): اختلف العلماء في رسم المصحف العثماني، فبعضهم يقول: إنه من اصطلاح الصحابة، وبعضهم يقول: إنه توقيفي، ويستدلون عليه بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان هو الذى يملي زيد بن ثابت القرآن من تلقين جبريل -عليه السلام- كما يشهد بذلك إطباق القراء على قوله تعالى: واخشوني في البقرة باثبات الياء، وفي المائدة بحذفها في الموضعين، ونظائر ذلك كثيرة، مما يدل على أن هجاء القرآن، وكتابته بالتوقيف، وأنه ليس من الرسم الموضوع، وقد كتب القرآن في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكن غير مجموع في موضع واحد، ولا مرتب السور. والذى يظهر لنا -والله تعالى أعلم- أن رسم المصحف العثماني غير توقيفي، ونستدل على قولنا هذا بخمسة أمور. (الأمر الأول) أن من معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم- كونه أميا لا يكتب، ولا يقرأ كتابا، كما قال تعالى " وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون"، فكيف يملي -عليه الصلاة والسلام- زيد بن ثابت على حسب قواعد الكتابة، والإملاء من نحو الزيادة، والنقص، والوصل، والفصل. فهل كان يقول -صلى الله عليه وسلم- لكاتب الوحي: اكتب كلمة " إبراهيم " في سورة البقرة كلها بغير ياء، واكتبها في بقية القرآن بالياء، واكتب كلمة " بأييد " بياءين، واكتب كلمة " وجائ يومئذ بجهنم " بزيادة ألف بعد الجيم، واكتب كلمة " لشائ " بزيادة ألف بعد الشين، واكتب كلمة " أفإين مات " بزيادة ياء قبل النون....، واكتب هذه الكلمات " جاءو. فاءو. باءو. تبوءو " بغير ألف فيها بعد واو الجماعة، وفيما عدا هذه الكلمات أثبت الألف بعدها، واكتب كلمة " مائة " بالألف، واكتب كلمة " فئة " بغير ألف، واكتب كلمة " سعوا " التي بالحج بالألف بعد الواو، واحذفها من " سعو " التي بسبأ. واكتب كلمة " واخشوني " بالياء في البقرة، واحذفها منها في التي بالمائدة، واحذف اللام الثانية من كلمة " اليل "، وأثبتها في كلمة " اللؤلؤ "، واكتب الكلمات " الصلوة. الزكوة. الربوا " بالواو، واكتب " قرت عين لى " بالتاء، واكتب " قرة أعين " بالهاء، وافصل كي عن لا في " كي لا يكون دولة "، وأوصلها في " لكيلا تأسوا "، وهكذا في جميع القرآن. فان كان إملاء النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن لكاتب الوحي بهذه الصفة، فالرسم توقيفي بلا جدال، لكن لم نر منقولا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يملي كاتب الوحى بهذه الصفة، والكيفية، فلو كان كذلك لتواتر عنه -صلى الله عليه وسلم- وما كان ذلك خافيا على أحد، ولو كان كذلك -أيضا- لكان عليه الصلاة والسلام عارفا بأصول الكتابة، وقواعد الإملاء، وكيف وهو النبي الأمي. (الأمر الثاني) لما اختلف زيد بن ثابت، ومن معه في كلمة " التابوت " أيكتبونه بالتاء، أم بالهاء رفعوا الأمر إلى عثمان -رضي الله عنه- فأمرهم أن يكتبوها بالتاء. فلو كان الرسم توقيفيا بإملاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بالكيفية التى ذكرناها لقال لهم زيد: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمرني بكتابتها بالتاء، ولقال عثمان لزيد كاتب الوحي: اكتبها بالكيفية التي أملاك بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ... إلى آخر كلامه. اهـ.
وللفائدة تراجع الفتوى: 146011
والله أعلم.