السؤال
روي عن الرسول أن الله قد أحيا له أمه وأباه ودعاهم للإسلام فأسلما، فهل هذه الرواية صحيحة وإن كانت ليست صحيحة، فما واجبنا نحو من يرددها؟ وجزاكم الله عنا كل خير.
روي عن الرسول أن الله قد أحيا له أمه وأباه ودعاهم للإسلام فأسلما، فهل هذه الرواية صحيحة وإن كانت ليست صحيحة، فما واجبنا نحو من يرددها؟ وجزاكم الله عنا كل خير.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن الحديث المذكور ضعيف، فقد ضعفه غير واحد من أهل العلم بل ذهب بعضهم إلى أنه موضوع، ولهذا فلا يجوز الاعتماد عليه، وعلى من سمع من يردده أو يعتمد عليه أن ينبهه ويبين له ذلك بطريقة علمية هادئة، وأنه لا يجوز التحديث به إلا على وجه بيان أنه ضعيف جدا أو موضوع.
ومع هذا فإننا ننصح السائل الكريم وأمثاله من طلبة العلم بعدم الخوض في مسألة مصير أبوي النبي صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي أن يجعلوا ذلك أكبر همهم أو يشغلوا به وقتهم، فهذه مسألة عويصة وشائكة ولا ينبني عليها عمل، وقد خاض فيها العلماء قديما واختلفوا فيها نتيجة لاختلاف الأدلة الواردة فيها.
ومن أجمل ما رأيناه فيما كتب عنها ما ذكره الشنقيطي في تفسير أضواء البيان عند تفسير قول الله تبارك وتعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [الإسراء:15]، حيث قال: ظاهر الآية الكريمة أن الله -عز وجل- لا يعذب أحدا من خلقه لا في الدنيا ولا في الآخرة، حتى يبعث إليه رسولا ينذره ويحذره، فيعصي ذلك الرسول ويستمر على الكفر والمعصية بعد الإنذار والإعذار.
وقد أوضح الله عز وجل هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله تعالى: رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما [النساء:165]، فصرح بأنه لا بد أن يقطع حجة كل أحد بإرسال الرسل مبشرين من أطاعهم بالجنة، ومنذرين من عصاهم بالنار.
وهذه الحجة بينها في سورة طه بقوله: ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى [طه:134]، وأشار لها في سورة القصص بقوله تعالى: ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين [القصص:47]، وقوله تعالى: ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون [الأنعام:31]، وقوله تعالى: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير [المائدة:19]، وكقوله تعالى: وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون* أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طآئفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين* أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون [الأنعام:155-156-157]، إلى غير ذلك من الآيات.
ووضح ما دلت عليه الآيات المذكورة وأمثالها في القرآن الكريم من أن الله جل وعلا لا يعذب أحدا إلا بعد الإنذار والإعذار على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام تصريحه جل وعلا في آيات كثيرة بأنه لم يدخل أحدا النار إلا بعد الإعذار والإنذار.... فمن ذلك قوله جل وعلا: تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير* قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير [الملك:8-9]، ومعلوم أن "كلما ألقي فيها فوج" يعم جميع الأفواج الملقين في النار، ثم ساق رحمه الله تعالى آيات كثيرة بهذا المعنى وعلق عليها بالتوضيح.
ثم قال: وهذه الآيات التي ذكرنا وأمثالها في القرآن العظيم تدل على عذر أهل الفترة بأنهم لم يأتهم نذير ولو ماتوا على الكفر..... وبهذا قالت جماعة من أهل العلم، وذهبت جماعة أخرى من أهل العلم إلى أن كل من مات على الكفر فهو في النار ولو لم يأته نذير، واستدلوا بظواهر آيات في كتاب الله تعالى وبأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فمن الآيات التي استدلوا بها قول الله تعالى: ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما [النساء:18]، وقوله تعالى: إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين [آل عمران:91]، وقوله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء:48]، وقوله تعالى: قالوا إن الله حرمهما على الكافرين [الأعراف:50] إلى غير ذلك من الآيات، ظاهر جميع الآيات العموم لأنها لم تخصص كافرا دون كافر، بل ظاهرها شمول جميع الكفار. ومن الأحاديث الدالة على أن الكفار لا يعذرون بكفرهم بالفترة ما أخرجه مسلم في صحيحه: أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: في النار، فلما قفى دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار. وفي صحيح مسلم أيضا: استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي. إلى غير ذلك من الأحاديث.
وهذا الخلاف مشهور بين أهل الأصول- هل المشركون الذين ماتوا في الفترة وهم يعبدون الأوثان في النار لكفرهم، أو معذورون بالفترة وعقده في مراقي السعود بقوله:
ذو فترة بالفرع لا يراع * وفي الأصول بينهم نزاع
وأجاب القائلون بتعذيب أهل الفترة في الآخرة أن التعذيب المنفي هو التعذيب الدنيوي كما وقع في الدنيا من العذاب لقوم نوح وقوم هود، وقوم صالح.... فلا ينافي ذلك التعذيب في الآخرة، إلى غير ذلك من الأجوبة التي ذكروها.
ثم ذكر أجوبة القائلين بعذر أهل الفترة وردهم على القائلين بعدم عذرهم في نقاش طويل لا يتسع المقام لنقله، ثم عقب على هذا النقاش بقوله: قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر أن التحقيق في هذه المسألة: هل يعذر المشركون بالفترة أو لا؟ هو أنهم معذورون بالفترة في الدنيا، وأن الله يوم القيامة يمتحنهم بنار يأمرهم باقتحامها، فمن اقتحمها دخل الجنة وهو الذي كان يصدق الرسل لو جاءته في الدنيا لأن الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل، وإنما قلنا إن هذا هو التحقيق في هذه المسألة لأمرين:
الأول: أن هذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبوته عنه نص في محل النزاع، فلا وجه للنزاع معه البتة.
الثاني: أن الجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن بلا خلاف لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما.
ملخصا من تفسير أضواء البيان مبحث "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا"
والله أعلم.