مدى صحة مقولة: اليد العاملة أفضل عند الله من اليد الساجدة

0 8

السؤال

ما صحة المقولتين الآتيتين، أو أشباههما "اليد العاملة أفضل عند الله من اليد الساجدة" أو "اليد الساندة أحسن من اليد الساجدة"؟مع العلم أني وجدت ردا، لا أعلم مدى صحته، وهو أنها "سليمة شرعا، وحقيقية في الشريعة الإسلامية، حيث أجمعت الأصول الشرعية على أن العمل أفضل من العبادة السلبية التي تتسبب في تعطيل مصالح الناس، فالعمل عبادة حقيقية في الشرع الإسلامي." فما مدى صحة هذا الكلام، وهل هناك عمل سلبي؟جزاكم الله كل خير.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

 فالإسلام -بحمد الله- دين متوازن، قد جعل الله فيه لكل شيء قدرا، وأعطى كل ذي حق حقه، وإطلاق هذه العبارات على هذا النحو غلط بلا شك، وإنما يصح في صورة واحدة، وهي إذا اشتغل العبد بتطوع العبادات حتى ضيع ما يلزمه من العمل الواجب، كالسعي الواجب للكسب لينفق على نفسه، ومن تلزمه نفقته، فهنا يأثم الشخص؛ لتضييعه، وتركه ما وجب عليه من الكسب الواجب.

قال البهوتي في الروض: ومن قدر أن يكتسب أجبر لنفقة قريبه. انتهى.

فمن ترك التكسب الواجب مع قدرته عليه أثم، وكان العامل الذي يكتسب، ويقتصر على واجبات العبادات خيرا منه. 

وأما من يشتغل بالسعي والكسب حتى يضيع الفروض -فضلا عن النوافل- متذرعا بمثل هذه الحجج، فهو على خطر عظيم، فإن الواجب القيام بجميع شعائر الدين، وشرائعه، وألا يضرب بعضها ببعض، وقد قال الله -تعالى- في صفة عباده الصالحين: رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار {النور: 37}.

فلم يقل إنهم لا يتاجرون، بل هم يبيعون، ويشترون، ولكن بيعهم، وشراؤهم، وتكسبهم لا يشغلهم عن الطاعة الواجبة.

قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: هذه الآية، كقوله -تعالى-: يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله [المنافقون: 9] الآية. وقوله -تعالى-: يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع [الجمعة: 9] الآية، يقول -تعالى-: لا تشغلهم الدنيا، وزخرفها، وزينتها، وملاذ بيعها، وربحها عن ذكر ربهم الذي هو خالقهم، ورازقهم، والذين يعلمون أن الذي عنده هو خير لهم، وأنفع مما بأيديهم؛ لأن ما عندهم ينفد، وما عند الله باق، ولهذا قال -تعالى-: لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، أي يقدمون طاعته، ومراده، ومحبته على مرادهم، ومحبتهم.

قال هشيم عن شيبان قال: حدثت عن ابن مسعود أنه رأى قوما من أهل السوق حيث نودي للصلاة المكتوبة تركوا بياعاتهم، ونهضوا إلى الصلاة، فقال عبد الله بن مسعود: هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه: رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله. الآية، وهكذا روى عمرو بن دينار القهرماني عن سالم عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه كان في السوق، فأقيمت الصلاة، فأغلقوا حوانيتهم، ودخلوا المسجد، فقال ابن عمر: فيهم نزلت: رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله. رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير. انتهى.

ثم إن العمل بمجرده لا يكون عبادة إلا بالنية الصالحة، فمن نوى بعمله، وتكسبه إعفاف نفسه، ومن تلزمه نفقته، فهو على خير، وسعيه هذا قربة يتقرب بها إلى الله، ما لم يشغله عن واجب، أو يوقعه في محظور.

ولعل مراد من أطلق لفظ العبادة السلبية عبادة من يترك الكسب الواجب، ويتخلى عن السعي حيث لزمه، فهذا هو الذي يأثم، وأما من ترك الكسب لاستغنائه مثلا، فلا إثم عليه، فالواجب وضع الأمور في نصابها، وأن ينزل كل شيء منزله الذي أنزله الله -تعالى-.

وأما إن أريد بتلك العبارات أن مساعدة الناس خير من الصلاة، كما توحيه العبارة الثانية، فاعلم أن مراتب الأعمال، ورجحان الراجح منها على غيره إنما يتلقى من الشرع، وقد ثبت أن الصلاة خير موضوع؛ ولذا اختلف العلماء في أي تطوع العبادات أفضل، فمنهم من رجح التطوع بطلب العلم، ومنهم من رجح التطوع بالصلاة، ومنهم من رجح التطوع بالجهاد، ومنهم -كما قرره ابن تيمية- من رجح أن الأفضلية تختلف بتفاوت الناس، وما يصلح كل أحد بحسبه.

وراجع لتفصيل الخلاف في هذه المسألة ما كتبه ابن مفلح -رحمه الله- في كتابه الفروع، فإنه أجاد، وأفاد.

وعلى كل حال؛ فهذا الإطلاق غير صحيح.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات