الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فسؤالك قد اشتمل على عدة أمور:
الأمر الأول: حكم الزيادة في الثمن على السعر الذي حدده لك صاحب العمل: ولتعلم أنك في عملك هذا وكيل عن صاحبك فليس لك الزيادة على ما حدد لك من السعر، وإن حصلت الزيادة فهي له وليس لك.
قال صاحب الكفاف العلامة محمد مولود الموريتاني:
وإن يزد فالزيد للموكل لا لوكيله الذي لم يعدل
والأمر الثاني: هو حكم أخذك من أموال صاحب العمل بغير رضاه وعلمه، حيث إن الأصل في ذلك التحريم، والأدلة على تحريم أكل مال المسلم بغير رضاه أكثر من أن تحصر، لكن إذا كان المأخوذ منه ظالما للآخذ في مال فهل للمظلوم أن يأخذ مقدار حقه بغير رضا الظالم إذا لم يعطه حقه؟
هذه المسألة تسمى عند الفقهاء بمسألة الظفر، وقد اختلف أهل العلم في ذلك على أقوال:
فمذهب الحنفية: أن رب الدين إذا ظفر من جنس حقه من مال المديون على صفته فله أخذه بغير رضاه، ولا يأخذ خلاف جنسه كالدراهم والدنانير.
وذهب المالكية: إلى أن من ظلمه إنسان في مال ثم أودع الظالم عنده مالا قدر ماله أو أكثر فليس له - أي المودع (بفتح الدال) - الأخذ منها، أي الوديعة حال كونها مملوكة لمن ظلمه.
ومذهب الشافعية: له أن يأخذ من جنس حقه ومن غير جنس حقه، فإن كان من عليه الحق منكرا ولا بينة لصاحب الحق أخذ جنس حقه، فإن فقد أخذ غيره وباعه واشترى به جنس حقه غير متجاوز في الوصف أو القدر، وقيد الشافعية ذلك بأمور:
أولها: ألا يطلع القاضي على الحال، فإن اطلع عليه لم يبعه إلا بإذنه جزما.
ثانيها: ألا يقدر على البينة وإلا فلا يستقل مع وجودها بالبيع والتصرف.
ثالثها: ألا يبيع لنفسه.
ومذهب الحنابلة أن من له على إنسان حق لم يمكن أخذه بحاكم وقدر له على مال حرم عليه أخذ قدر حقه.
والفتوى عندنا في الشبكة على جواز ذلك.
قال القرطبي في تفسيره: والصحيح جواز ذلك كيف ما توصل إلى أخذ حقه ما لم يعد سارقا، وهو مذهب الشافعي وحكاه الداودي عن مالك وقال به ابن المنذر واختاره ابن العربي، وأن ذلك ليس خيانة وإنما هو وصول إلى حق.
واستدل من قال بجواز أخذ الحق من الجنس أو من غيره: بقوله تعالى: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا [الشعراء: 227].
وبما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف.
وبما في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر قال: قلنا للنبي صلى الله عليه وسلم إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يقروننا فما ترى فيه؟ فقال لنا: إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم.
وعليه، فإنه لا حرج عليك في الأخذ بمقدار ما حصل عليك الظلم به، وهو الفرق بين ما تم الاتفاق عليه وبين ما كان يعطيك، ويجب عليك أن تتحرى الدقة وألا تتجاوز الحق الذي لك، واعلم أن من تجاوز وأخذ حق غيره فإنما يأخذ قطعة من النار.
والأمر الثالث: إذا كنت قد أخذت من مال من ظلمك أكثر مما وقع عليك الظلم به، فإن ذلك من الخيانة، وقد قال تعالى: إن الله لا يحب الخائنين [الأنفال: 58].
وقال تعالى: ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين [البقرة: 190].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك. رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
والواجب عليك إن حصل ذلك هو التوبة مما فعلت والندم على ذلك، وإرجاع الحق إلى أهله بالطريق المناسبة، ولا ينفعك التصدق بالمال عنه.
واعلم أنه يجب على من كان لديه مال مختلط من حلال وحرام أن يفصله إن أمكنه تمييز الخبيث من الطيب ويرد الحق إلى أهله، فإن لم يمكنه ذلك لعدم معرفته بمقدار الحرام وجب عليه التحري والاحتياط في إخراج ما يغلب على ظنه أنه هو الحرام إلى أهله، فإن لم يمكنه ذلك لعدم معرفته بهم هم أو ورثتهم وعجزه عن ذلك بعد بذل الوسع فيتصدق به عنه، فإن ظهروا هم أو ورثتهم وأمضوا التصدق فالأمر واضح، وإن لم يمضوه رد إليهم ما لهم وكان الأجر له هو.
والله أعلم.