السؤال
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والصواب أن البسملة آية من كتاب الله، حيث كتبها الصحابة في المصحف، إذ لم يكتبوا فيه، إلا القرآن، وجردوه عما ليس منه، كالتخميس، والتعشير، وأسماء السور؛ ولكن مع ذلك لا يقال هي من السورة التي بعدها، كما أنها ليست من السورة التي قبلها، بل هي كما كتبت آية، أنزلها الله في أول كل سورة، وهذا أعدل الأقوال الثلاثة في هذه المسألة." أرجو التفصيل في هذا القول، فأنا آخذ بقول من يقول: إن البسملة آية منزلة منفصلة عن الفاتحة، كما أنها آية منفصلة عن كل سورة ما عدا سورة (براءة). فهل هذا قول معتبر؟ وهل معنى ذلك أنها آيات متعددة نزلت بعدد سور القرآن قبل كل سورة ما عدا (براءة)؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد اتفق أهل العلم على كتابة البسملة في المصحف بداية كل سورة ماعدا سورة براءة، وقد اختلفوا في عدها آية من بداية كل سورة، أو هي آية من الفاتحة دون غيرها من السور، أو هي آية نزلت للفصل بين السور، وليست آية من الفاتحة، ولا من غيرها، أو ليست من القرآن أصلا، إلا ما في آية النمل: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم {النمل:30}. وإنما يؤتى بها للتبرك باسم الله -تعالى-.
قال ابن عادل في اللباب في علوم الكتاب (1/ 151):
اختلف العلماء في البسملة، هل هي آية من كل سورة، أم لا؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ليست بآية من " الفاتحة "، ولا من غيرها، وهو قول مالك -رحمه الله-؛ لأن القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد، وإنما طريقه التواتر. قال ابن العربي: " ويكفيك أنها ليست من القرآن الكريم اختلاف الناس فيها، والقرآن لا يختلف فيه ". والأخبار الصحيحة دالة على أن البسملة ليست بآية من " الفاتحة "، ولا من غيرها، إلا في " النمل " واستدل بما روى مسلم -رحمه الله- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وشرف، وكرم، ومجد، وبجل، وعظم، أنه قال: " يقول الله -تبارك وتعالى- قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ... . ". الحديث.
الثاني: أنها آية من كل سورة، وهو قول عبد الله بن المبارك.
الثالث: قال الشافعي -رضي الله تعالى عنه-: هي آية في الفاتحة، وتردد قوله في غيرها، فمرة قال: هي آية من كل سورة، ومرة قال: ليست بآية، إلا من " الفاتحة " وحدها. ولا خلاف بينهم في أنها آية من القرآن في سورة " النمل ".
واحتج الشافعي: بما رواه الدارقطني عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وشرف، وكرم، وبجل، ومجد، وعظم، أنه قال: إذا قرأتم الحمد لله رب العالمين، فاقرءوا " بسم الله الرحمن الرحيم، إنها أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني، وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها ".
وحجة ابن المبارك ما رواه مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشرف، وكرم، وبجل، ومجد، وعظم، قال: " أنزلت علي آنفا سورة "، فقرأ: " بسم الله الرحمن الرحيم ": {إنا أعطيناك الكوثر}. اهـ.
وبهذا تعلم أن القول بكون البسملة آية من الفاتحة، ومن كل سورة قول معتبر، كما أن القول بأنها آية مستقلة ليست من السور قول معتبر، وأما عن كون ذلك يعني أنها آيات متعددة نزلت بعدد سور القرآن قبل كل سورة ما عدا (براءة)، فهو ظاهر كلام بعض أهل العلم، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في مجموع الفتاوى -22/ 392: إنما أنزلها الله في أول كل سورة، وهي من القرآن حيث كتبت كما كتبها الصحابة، لكنها آية مفردة في أول السورة، وليست من السورة. انتهى.
وقال النووي في المجموع (3/ 334) :
مذهبنا أن البسملة آية من أول الفاتحة بلا خلاف، فكذلك هي آية كاملة من أول كل سورة غير براءة على الصحيح من مذهبنا، وبهذا قال خلائق لا يحصون من السلف. قال الحافظ أبو عمرو بن عبد البر: هذا قول ابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، وطاوس، وعطاء، ومكحول، وابن المنذر، وطائفة، وقال: ووافق الشافعي في كونها من الفاتحة أحمد، وإسحق، وأبو عبيد، وجماعة من أهل الكوفة، ومكة، وأكثر أهل العراق، وحكاه الخطابي عن أبي هريرة، وسعيد بن جبير، ورواه البيهقي في كتابه الخلافيات بإسناده عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، والزهري، وسفيان الثوري، وفي السنن الكبير له عن علي، وابن عباس، وأبي هريرة، ومحمد بن كعب -رضي الله عنهم-، وقال مالك، والأوزاعي، وأبو حنيفة، وداود: ليست البسملة في أوائل السور كلها قرآنا، لا في الفاتحة، ولا في غيرها، وقال أحمد: هي آية في أول الفاتحة، وليست بقرآن في أوائل السور، وعنه رواية أنها ليست من الفاتحة أيضا، وقال أبو بكر الرازي من الحنفية وغيره منهم: هي آية بين كل سورتين غير الأنفال، وبراءة، وليست من السور، بل هي قرآن، كسورة قصيرة، وحكي هذا عن داود، وأصحابه أيضا، ورواية عن أحمد .... اهـ.
وقال الشوكاني في فتح القدير (1/ 20):
جزم قراء مكة، والكوفة بأنها آية من الفاتحة، ومن كل سورة، وخالفهم قراء المدينة، والبصرة، والشام، فلم يجعلوها آية، لا من الفاتحة، ولا من غيرها من السور، قالوا: وإنما كتبت للفصل، والتبرك. وقد أخرج أبو داود بإسناد صحيح، عن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان لا يعرف فصل السورة، حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم.... اهـ.
وقال الشيخ الأمين الشنقيطي في مذكرته في أصول الفقه (ص: 66) :
اختلف العلماء في البسملة، هل هي آية من أول كل سورة، أو من الفاتحة فقط، أو ليست آية مطلقا. أما قوله في سورة النمل " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم"، فهي آية من القرآن إجماعا. وأما سورة براءة، فليست البسملة آية منها إجماعا، واختلف فيما سوى هذا، فذكر بعض أهل الاصول أن البسملة ليست من القرآن، وقال قوم: هي منه في الفاتحة فقط، وقيل هي آية من أول كل سورة، وهو مذهب الشافعي -رحمه الله تعالى-. قال مقيده عفا الله عنه: ومن أحسن ما قيل في ذلك، الجمع بين الأقوال، بأن البسملة في بعض القراءات، كقراءة ابن كثير آية من القرآن، وفي بعض القرآن ليست آية، ولا غرابة في هذا. فقوله في سورة الحديد " فإن الله هو الغني الحميد" لفظة (هو) من القرآن في قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وليست من القرآن، في قراءة نافع، وابن عامر؛ لأنهما قرءا " فإن الله الغني الحميد" وبعض المصاحف فيه لفظة (هو)، وبعضها ليست فيه .... اهـ.
وقال ابن عاشور في التحرير والتنوير (1/ 138) :
لا خلاف بين المسلمين في أن لفظ بسم الله الرحمن الرحيم هو لفظ قرآني؛ لأنه جزء آية من قوله -تعالى-: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ...، وإنما اختلفوا في أن البسملة، هل هي آية من سورة الفاتحة، ومن أوائل السور غير براءة، بمعنى أن الاختلاف بينهم ليس في كونها قرآنا، ولكنه في تكرر قرآنيتها، كما أشار إليه ابن رشد الحفيد في البداية، فذهب مالك، والأوزاعي، وفقهاء المدينة، والشام، والبصرة- وقيل باستثناء عبد الله بن عمرو، ابن شهاب من فقهاء المدينة- إلى أنها ليست بآية من أوائل السور، لكنها جزء آية من سورة النمل، وذهب الشافعي في أحد قوليه، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وفقهاء مكة، والكوفة غير أبي حنيفة، إلى أنها آية في أول سورة الفاتحة خاصة، وذهب عبد الله بن المبارك، والشافعي في أحد قوليه، وهو الأصح عنه إلى أنها آية من كل سورة. ولم ينقل عن أبي حنيفة من فقهاء الكوفة فيها شيء، وأخذ منه صاحب الكشاف أنها ليست من السور عنده فعده في الذين قالوا بعدم جزئيتها من السور، وهو الصحيح عنه..... ثم أطنب في الاستدلال للأقوال -رحمه الله تعالى-.
وانظر الفتويين: 104048 036312
والله أعلم.