الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا حرج في نقل الكفارات عن البلد الذي وجبت فيه. كما سبق بيانه في الفتويين: 287407، 35223.
وأما إخراج القيمة في الكفارات؛ فلا يجزئ عند جمهور الأئمة، وجوزه الحنفية، وفصل شيخ الإسلام ابن تيمية، فمنعه لغير حاجة ولا مصلحة راجحة، وأجازه إذا كان للحاجة والمصلحة، وراجعي في ذلك الفتويين: 93960، 488083.
وعلى قول من يجيز إخراج القيمة للمصلحة في الكفارة، ونقلت هذه القيمة إلى بلد آخر، مع اختلاف قيمة الطعام في البلدين، فهل المعتبر القيمة في البلد الذي وجبت فيه الكفارة، أم البلد الذي تؤدى فيه الكفارة؟ لم نجد نصا لأهل العلم في ذلك، وهو محل نظر على أية حال.
ونظير هذه المسألة عند الجمهور، مسألة: اعتبار غالب قوت البلد في الطعام المخرج في الكفارة، فلو اختلف بلد المكفر عن بلد الحالف، فأي البلدين يعتبر؟ هذا محل خلاف بين أهل العلم، قال النووي في المنهاج: يتخير في كفارة اليمين بين عتق -كالظهار-، وإطعام عشرة مساكين، كل مسكين مد حب من غالب قوت بلده. اهـ.
وقال ابن حجر في شرحه تحفة المحتاج: أي: بلد المكفر، فلو أذن لأجنبي أن يكفر عنه، اعتبر بلده لا بلد الآذن فيما يظهر.
فإن قلت: قياس ما مر في الفطرة اعتبار بلد المكفر عنه؟
قلت: يفرق بأن تلك طهرة للبدن؛ فاعتبر بلده، بخلاف هذه.
نعم، في كثير من النسخ "بلده"، وقضيتها اعتبار بلد الحالف، وإن كان المكفر غيره في غير بلده، وهو محتمل لما ذكر من مسألة الفطرة. اهـ.
وقال الجمل في حاشيته على شرح المنهج: قوله: (من غالب قوت بلده) أي: الحالف، أي: محل الحنث، ولا يتعين صرفها لفقراء تلك البلد، وإن كان المكفر غيره وهو في غير بلده؛ لأن العبرة ببلد المؤدى عنه. اهـ.
وقال الرملي في شرح زبد ابن رسلان: إنما اعتبر بلد المؤدى عنه؛ بناء على أنها تجب عليه ابتداء، ثم يتحملها المؤدي، وهو الأصح. اهـ.
وقياس هذا؛ أن تكون العبرة في قيمة الكفارة ببلد الحالف، حتى ولو زادت القيمة في البلد الآخر.
ونظير إغفال تفاوت القيمة: مسألة نقل زكاة السائمة والزروع من بلد وجوبها إلى بلد أشد حاجة، إذا لم يمكن نقلها، أو أمكن، ولكن عدمت أجرة نقلها من بيت المال؛ فإنها تباع، ويشترى بثمنها شيء من جنسها في البلد الآخر، قال خليل في مختصره: وإلا بيعت واشتري مثلها. اهـ.
ومعلوم أن السعر قد يتفاوت بين البلدين؛ ولذلك قال عليش في منح الجليل: (مثلها) أي: الزكاة نوعا لا قدرا؛ لتبعيته للسعر في البلدين؛ فيشترى بثمن الطعام طعام، وبثمن الماشية ماشية، إن أمكن، وإلا فرق الثمن، كزكاة العين. اهـ.
وقال العدوي في حاشيته على شرح الخرشي: (مثلها) ليس المراد بها حقيقتها، بل المراد بالمثلية الجنسية. اهـ.
ونظير ذلك أيضا: مسألة جزاء الصيد في الحرم أو الإحرام، إذا حكم الحكمان على الصائد بالطعام، وأراد أن يطعم في بلده لا في بلد إتلاف الصيد، وكانت قيمة الطعام في بلده أعلى منها في موضع الإتلاف، قال العتبي في الحج مما ليس في المدونة: قلت -أي للإمام مالك-: أرأيت إن أحب أن يطعم في بلده، والطعام عندهم أرخص، أيجزئه أن يخرج المكيلة التي حكما بها عليه؟ فقال: لا، ولكن ينظر إلى قيمة ذلك الطعام من الثمن من الدنانير والدراهم حيث أصاب الصيد، ووجب عليه الحكم، ثم يشتري بذلك الثمن طعاما ببلده.
قلت: أرأيت إن وجد طعاما ببلده أغلى منه حيث حكم عليه، أيجزيه أن يشتري بذلك الثمن وإن قل الطعام أم لا يجزيه إلا أن يطعم تلك المكيلة التي حكم بها عليه؟
قال: يشتري بذلك الثمن الذي باع به الطعام الذي حكم به عليه حيث أحب أن يتصدق بالطعام، غلا الطعام بذلك البلد أو رخص، لا شيء عليه إلا ذلك. اهـ.
وعلى ذلك؛ فالواجب حين إخراج القيمة هو اعتبار بلد الحالف، سواء أزادت في البلد الآخر أم نقصت.
ومع ذلك؛ فالأفضل هو اعتبار أغلى السعرين، احتياطا، ومراعاة لجانب المساكين، قال ابن رشد في البيان والتحصيل، بعد نقل كلام الإمام مالك في مسألة جزاء الصيد: قال ابن حبيب: إنه إن لم يطعم بالموضع الذي حكم به عليه، أو فيما قاربه، فليخرجه على أرخص السعرين، وهو احتياط واستحسان من نحو قوله فيمن وجبت عليه زكاة دينار، فأراد أن يخرج عنها دراهم: أنه يخرج قيمتها من الدراهم، إلا أن تكون قيمتها أقل من عشرة دراهم بدينار، فلا ينقص من ذلك شيئا. اهـ.
وقال القرافي في الذخيرة: هذا الفرع يلاحظ فيه معنى نقل الزكاة من موضعها.
وإذا قلنا يطعم بغير موضع الإتلاف، قال ابن وهب: يخرج بقيمة الطعام به حيث تلف، فيشتري بها طعاما، غلا أو رخص. وراعى ابن حبيب الأكثر من مكيلة ما وجب عليه، أو مبلغ قيمته. اهـ.
وهنا ننبه على أن نقل الكفارة في الحال التي ذكرتها السائلة، يجب أن يراعى فيه العلم بوصول الكفارة إلى غزة بالفعل، وانظري للفائدة حول تعدد الكفارات الفتويين: 394996، 468598.
والله أعلم.