السؤال
هناك من يشنع على أهل الحديث ويصفهم بالحشوية والمشبهة لأنهم يثبتون ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له نبيه صلى الله عليه وسلم دون تعطيل أو تشبيه ويقولون إن تلك الصفات إنما هي من المجاز المنتشر في لغة العرب ويدعون أن السلف أصحاب الحديث متناقضون إذ يمنعون التأويل في آيات ويجيزونه في آيات أخرى، فهل أن التأويل ممنوع مطلقا، أو أن هناك تفصيل، وما موقف السلف من قوله تعالى "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا" أو "يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله"، وما شابهها من الآيات والأحاديث، وكيف نرد على هؤلاء المبتدعة؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن المسلم يتعين عليه تصديق الله فيما أخبر به عن نفسه، وإيمانه بما سمى به ووصف به نفسه من الأسماء والصفات، فالله أعلم منا بنفسه وهو أصدق فيما يصف نفسه به، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بالله وهو الصادق المصدوق، فقد قال الله تعالى: ومن أصدق من الله حديثا {النساء:87}، وقال الله تعالى في وصف حال نبيه صلى الله عليه وسلم: وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى {النجم:3-4}.
فالإيمان بما ثبت عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم واجب شرعي، وقول المحدثين فيه أولى من قول العقلانيين، لأن المحدثين أدرى بنصوص الوحي ممن حكموا عقولهم في الوحي المنزل من عند الله زعما منهم أنهم ينزهون الله عما استحال عليه من الشبه بالمخلوق، فأنكر بعضهم الأسماء والصفات كما عمل الجهمية، وأنكر بعضهم الصفات كما عمل المعتزلة، وأول بعضهم بعض الصفات كما عمل بعض الأشاعرة.
وأما أهل الحديث فإنهم أثبتوا ما أثبتته نصوص الوحي مصدقين الله ورسوله وفاهمين كلامهما حسبما يفهمه العرب الذين نزل القرآن فيهم، نافين للتشبيه، معتمدين في الإثبات للصفات على النصوص الثابتة فيها، وفي نفي التشبيه على قوله تعالى: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير {الشورى:11}، فقد نفى التشبيه في أول الآية وأثبت بعض الصفات في نهايتها، وما يقال في صفة السمع والبصر من الإثبات مع نفي التشبيه يقال في جميع الصفات.
فالعرب الذين نزل القرآن بلغتهم وعاصروا نزوله لم يستشكل مسلموهم ولا كفارهم على النبي صلى الله عليه وسلم مسألة الصفات، فلم يقل كفارهم تناقض كلامك في نفي التشبيه وأثبت صفات تفيد التشبيه، ولم يستشكل مسلموهم ويذكروا عدم فهم ذكر الصفات المفيدة للتشبيه.
ولم يؤثر عن المفسرين من الصحب والتابعين صرف ألفاظ الوحي عن حقيقتها إلى مجازها إلا بدليل يفيد ذلك، فالأصل في كلام العرب حمل اللفظ على حقيقته، وعدم صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى لفظ مرجوح إلا بدليل وقرينة تدل على المراد، فالأصل إذا هو عدم التأويل مطلقا إلا إذا ثبت دليل يرجح المعنى المرجوح على الظاهر، فما أوهم حدوثا أو نقصا في ألفاظ الوحي بين الشارع المراد منه ولم يترك لبسا يضطرنا لتأويل وتحريف معاني الكلم، ومن ذلك ما ثبت في الحديث القدسي في صحيح مسلم: إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا بن آدم مرضت فلم تعدني، وقوله: يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني.
فقد وضح الله المعنى المراد فيه بقوله: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، وقال في الإطعام: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه. ومثل ما قيل في هذا يقال في آية: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا. فالمراد المطلوب من العباد هو إنفاقهم فيما يرضي الله من إطعام المحتاجين وإعانة الغزاة وما أشبه ذلك، ولا يفهم منه أن الله محتاج للقرض من الناس.
وأما آية: يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله، فإن المراد بها التفريط في حق الله، وهذا جار على المتعارف عليه من لغة العرب، ويدل لهذا أن حسرة هذا المتحسر إنما تكون على تقصيره في الطاعات التي هي من حقوق الله تعالى، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في الجواب الصحيح: أنه لا يعرف عالم مشهور عند المسلمين ولا طائفة مشهورة من طوائف المسلمين أثبتوا لله جنبا نظير جنب الإنسان.
وقد بسط القول في ذلك ابن القيم في الصواعق المرسلة فلتراجع، وراجع تفسير ابن الجوزي عند هذه الآية، ثم إن نبز المحدثين بالحشوية والمشبهة يكذبه ما هو موجود بكثرة في كتب أهل الحديث من تصريحهم باعتقادهم نفي التشبيه وردهم على المشبهة.
واعلم أن أساطين المؤولة الكبار الذين أفنوا كثيرا من أعمارهم في علم الكلام قد رجعوا عن التأويل إلى مذهب أهل الحديث، ومنهم: الإمام الأشعري وإمام الحرمين الجويني والغزالي والفخر الرازي، وراجع كتاب الإبانة للأشعري وشرح الطحاوية لابن أبي العز للاطلاع على كلامهم، وراجع الحموية والوسطية وشرح ابن عثيمين لهما والصواعق المرسلة لابن القيم، وراجع الفتاوى ذات الأرقام التالية: 2359، 42748، 6707، 46017 55619، 28674، 2496، 5719، 60906.
والله أعلم.