السؤال
أنا دائم القراءة للكتب الاسلامية. ولكن تواجهني أثناء القراءة أراء الأئمة الأربعة: الشافعي وابن حنبل ومالك وأبي حنيفة. فأي الآراء أتبع ؟ وإذا كانوا متفقين في الآراء فلماذا هذا العرض في الكتب لآراء هؤلاء الأئمة الأربعة رحمهم الله؟ وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فمن فضل الله وكرمه أن أصول الدين، وقطعيات الإسلام، وما اتفقت عليه الأمة من جليات الشرع، لم تختلف فيها الأمة، ولا يجوز لها ذلك، فليست تلك المسائل محلا للاجتهاد أصلا، ولكن شاء الله أن يختلف الناس في أفهامهم ومداركهم، وجعل سبحانه كثيرا من أدلة الشريعة محتملا أكثر من دلالة وذلك لحكمة بالغة.
فنتيجة لذلك وقع الخلاف بين علماء المسلمين في المسائل الفرعية الاجتهادية، بل إن الصحابة رضوان الله عليهم مع علو مكانتهم، وقربهم من فترة الوحي، اختلفوا في المسائل الاجتهادية الفقهية. فغيرهم أولى بالوقوع في الاختلاف، لكنهم ومن بعدهم من أئمة المسلمين ما تعمدوا خلاف نصوص الشرع، فدين الله في قلوبهم أعظم وأجل من أن يقدموا عليه رأي أحد من الناس، أو يعارضوه برأي، أو قياس.
قال ابن تيمية: (وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولا عاما يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته، دقيق ولا جليل، فإنهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى أن كل واحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلابد من عذر له في تركه) انتهى.
فهم رضي الله عنهم إن وجد لهم مسائل جانبوا فيها الصواب، فإنهم ما قصدوا مخالفة الدليل، وإنما نتج ذلك عن اجتهاد منهم، وتحروا الحق، وركضوا وراءه، فأصابوا وأخطأوا، كل بحسب اجتهاده، فهم يترددون بين الأجر والأجرين، للمخطئ منهم أجر واحد، وللمصيب منهم أجران.
ويرجع السبب في اختلاف علماء المسلمين إلى أمور كثيرة منها:
أن لا يكون الدليل قد بلغ أحدهم، أو بلغه ولم يثبت عنده، أو ثبت عنده لكنه لا يراه يدل على المقصود، أو أنه منسوخ، أو أن له معارضا أرجح منه.. إلى غير ذلك من الأسباب التي تسوغ الخلاف بين العلماء.
فنحن لا ينبغي أن تضيق صدورنا باختلاف المجتهدين، ولا نحسبه تجزئة في الدين، وإنما نراه من مظاهر نشاط فقهاء المسلمين.
وعرض اختلافهم في أمهات الكتب له فوائد عظيمة منها:
1- أنه يتيح التعرف على جميع الاحتمالات التي يمكن أن يكون الدليل رمى إليها بوجه من وجوه الدلالة.
2- أن هذا الاختلاف المنضبط بضوابط الشريعة فيه تنمية للملكة الفقهية، ورياضة للأذهان، وتلاقح للآراء، وفتح مجالات التفكير للوصول إلى سائر الافتراضات التي تستطيع العقول المختلفة الوصول إليها.
3- تعدد الحلول أمام الفقيه في الوقائع النازلة ليهتدي بذلك الفقه إلى الحل المناسب لها وإلى أي الأدلة أقيس بها.
وعند اختلاف العلماء على المسلم إن كان له نظر في الأدلة أن يتبع من أقوالهم ما كان أظهر صوابا وأرجح دليلا، مع ترك التعصب للأئمة وتقديم أقوالهم على نصوص الشرع، مع إنزالهم منزلتهم اللائقة بهم، والاستفادة من اجتهاداتهم في فهم نصوص الشرع، مع الحذر من تتبع رخص الأقوال والترجيح بالتشهي بما يناسب هوى المستفتي بحجة أن في المسألة أقوالا، فمجرد الخلاف ليس دليلا.
أما إن كان عاميا ـ أي غير متخصص في علوم الشريعة، ولا له نظر في الأدلة ـ فإنه لا يلزمه التمذهب بمذهب، بل يستفتي من اتفق له ممن هو من أهل العلم والورع من غير ترخص.
قال الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه: ( فإن قال قائل فكيف في المستفتى من العامة إذا أفتاه الرجلان واختلفا، فهل له التقليد؟ قيل: إن كان العامي يتسع عقله، ويكمل فهمه إذا عقل أن يعقل، وإذا فهم أن يفهم، فعليه أن يسأل المختلفين عن مذاهبهم، وعن حججهم فيأخذ بأرجحها عنده، فإن كان له عقل يقصر عن هذا، وفهمه لا يكمل له، وسعه التقليد لأفضلهما عنده" انتهى.
وقال النووي في روضة الطالبين: ( وليس له التمذهب بمجرد التشهي، ولا بما وجد عليه أباه. هذا كلام الأصحاب. والذي يقتضيه الدليل أنه ـ أي العامي ـ لا يلزمه التمذهب بمذهب، بل يستفتي من يشاء، أو من اتفق، لكن من غير تلقط للرخص) والله أعلم.