اتباع فهم الصحابة به النجاة من الانحراف

0 508

السؤال

أرجوا منكم أن تقرؤوا بتمعن قضيتي وأن تصححوا لي كل المفاهيم الخاطئة وتجيبوني بسرعة ومباشرة.
لدينا في الجامعة في المغرب فتيات متحجبات يقمن بالدعوة وكلهن يرددن نفس الكلام ويقضين معظم وقتهن في مسجد الجامعة كما أنهن يقلن بأنه يجب تفريغ الوقت لله والتضحية بأغلى ما عندنا وهو الوقت والدراسة لذا يخصصون دائما وقتا ما بين 10 صباحا إلى 12 زوالا يقمن فيه مجلس الذكر يقرأن فيه من رياض الصالحين وسيرة الصحابة ويدعوننا إلى التضحية بالدراسة والحضور . ومن جملة كلامهن أن تقوية الإيمان وزيادة اليقين لا يمكن أن يتم لا بالقران أو بالصلاة أو بأي عبادة أخرى من غير الدعوة حيث إن القلب يتأثر ب 4 مصبات هي الفكر الكلام السمع والبصر ولا يمكن التحكم بهم جميعا إلا أثناء المذاكرة وإن صلحت هذه المصبات صلح القلب. كما أنهن يقلن بأن هناك 18000 أمر و18000سنة وفي النار 36000 من الكلاليب إن لم تفعل واحدا منهم فسوف يتخطفك أحدهم يوم القيامة كأنهن يقصدن بأنا محاسبون على ترك السنة. وأيضا من أقوالهن أن رزقنا على الله حتى أننا إن لم نبذل جهدا فسوف يأتينا ما كتب لنا فمن أجل ذلك ليس علينا أن نبذل جهدا كبيرا في الدراسة والتضحية بالعبادات فرزقنا آت آت فساعتان في اليوم كافيتان وعلينا بصلاة الحاجة حتى يفهمنا الله ويرزقنا علما كما أنهن يقلن بأنهن يحضرن المحاضرة ويدخلن للصف فقط من أجل الدعوة إلى الله فأغلبيتهن يكررن السنوات ويقلن ليس هناك شيء في ذلك لأنه لا يجب علينا أن نطور هذه الحياة الفانية وبذل الجهد فيها وأن نبين للغرب أن المسلمين ليسوا متخلفين كما يزعمون ولكن يجب أن نبين لهم فقط أن الإسلام يأمرنا بحسن الخلق وفيما يخص الوقت فيقلن بأنه لما يزداد يقيننا سوف نفهم بأن الوقت كله يجب أن يكون لله يذكرن على سبيل المثال عمر أوعليا رضي الله عنهما كان قد خصص نصف وقته للتجارة والنصف الآخر لله لكن رأى بأن الآخرين يسبقونه فزاد من وقته لله إلى أن ضحى بوقته كله لله وهذا ما يجب علينا أن نفعل. وعندما أسألهن عن المصادر التي يعتمدن عليها يقلن القرآن والسنة أي رياض الصالحين مع العلم أنه ليس فيه شرح فهن يقلن إن الأحاديث لا تفهم إلا بنور القلب فان كان مليئا بالذنوب والمعاصي فطبيعي أننا لا نفهم مع العلم أن مستوانا في اللغة العربية هنا في المغرب ليس جيدا فكيف سنفهم إن لم نعتمد على الشرح ويقلن لماذا كان الصحابة يفهمون كذلك يعتمدون على سيرة الصحابة فقط وفي ما يخص المصدر فيقلن هل الطبيب لا يعرف مهنته وكذلك المسلم. ومن أقوالهن أن في المسجد النبوي في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام كانت تقام 4 أعمال: الدعوة، تعليم وتعلم، فضائل الأعمال، وخدمة الناس. لذا فالمسجد الذي تقام فيه هذه الأعمال تنزل فيه الهداية والرحمات، والغريب من الأمر أن لهن نفس الكلام ويحفظننا إياه . وبعضهن تركن الدراسة للتفرغ للدعوة ويضربن مثالا أنه إن تزوجت إحدانا هل لن تضحي بالدراسة إن أمرها زوجها. ويقلن لنا أن لا ننصت للشيوخ الأفاضل في التلفاز أو قراءة الكتب لأنهم يزينون لنا الدين بالدنيا ولا يقولون كل شيء خوفا على مناصبهم بل هن سوف يعلمننا ويحفظننا كل شيء. ولكن الذي يؤثر فينا خوفهم من الله والبكاء من خشيته.أرجوكم أفيدونا هل نصاحبهن ونستمع لكلامهن فنحن في حيرة لأن الناس ينصحوننا بالابتعاد عنهن ولكن معاملتهن وتقواهن لله تحيرنا فنخاف أن نظلمهن. أرجو أن ثقرؤوا الموضوع جيدا وإن لم تفهموا شيئا أن تنبهونا. وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فإن الحكم على نشاط جماعة ما حكما مفصلا دقيقا يتطلب الوقوف على منهجها العلمي والعملي، وربما احتاج إلى مخالطتها؛ لأنه ما كل سائل عن مجموعة من الناس استوعب ما عندها، وقد قرر الفقهاء أن القاضي لا يحق له الحكم على خصم ما لم يسمع منه، إلا أنا ننبه على بعض الأمور التي جاءت في السؤال مؤكدين على ضرورة الإنصاف والعدل والتحري في الحكم على الآخرين، ونرجو أن تراجعن القائمين على المراكز والمؤسسات الدعوية في المغرب ليتفهموا وليناصحوا طالبات الجامعة، ويصححوا لهن ويرشدوهن ويسددوا سيرهن.

 وأما الأمور التي ننبه عليها فمنها التنبيه على أن الدعوة إلى الله تعالى واجبة على عموم الأمة وجوبا كفائيا، وواجبة وجوبا عينيا على كل فرد من المسلمين بحسب استطاعته وقدر علمه، فيتعين على الرجال والنساء القيام بها كما قام بها أبو بكر وخديجة وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: بلغوا عني ولو آية. رواه البخاري، هذا هو القول الراجح أن الدعوة واجبة على كل فرد بحسبه.

 وذلك لقول الله تعالى آمرا هذه الأمة بالدعوة إليه سبحانه: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون {آل عمران:104}.

 واختلف أهل التفسير في "منكم" هذه هل هي للتبعيض أم لبيان الجنس، ورجح الطبري والقرطبي أنها للتبعيض، ورجح ابن جزي أنها لبيان الجنس، وفصل الحافظ ابن كثير في المسألة فقال في تفسيره:

والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان. وفي رواية: وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل. انتهى

وبناء عليه فيمكن الجمع بين القولين بأن انتصاب طائفة من المسلمين وتفرغهم للدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية على الأمة، وأن قيام كل فرد بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب قدرته فرض عين، قال الله تعالى: وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون [التوبة:122].

ولكنه يتعين على من يدعو إلى الله أن يدعو بعلم وبصيرة، فالله جل وعلا يقول: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين {يوسف:108}.

 وليس معنى ذلك أن لا يدعو حتى يصبح عالما، ولكن المطلوب منه العلم بما يدعو إليه ولو كان آية واحدة، أو حديثا واحدا، لما في حديث البخاري: بلغوا عني ولو آية. وفي حديث الترمذي: نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه. و يتعين على الداعي أن يحرص على الزيادة من العلم دائما، وأن يكون عاملا بما يعلم ويدعو إليه، وانظري الفتوى رقم: 7583.

وليعلم أن الإيمان يحصل بتعلم الوحي كتابا وسنة ثابتة، والعمل بهما والدعوة لما فيهما وحب المتمسكين بهما والإحسان إليهم، فالدعوة من أعظم أسباب الهداية وليست هي السبب الوحيد للهداية، والدعوة الناجحة هي الدعوة بالقرآن لأن القرآن هو زاد الداعي ووسيلته للإنذار والهداية؛ لقول الله تعالى: قل إنما أنذركم بالوحي{الأنبياء:45}، ولقوله تعالى: قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي{سبأ:50}، ولقوله تعالى: وجاهدهم به جهادا كبيرا {الفرقان:52}.

ومن نظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فسيلاحظ كثرة ذكر الرواة أنه دعا قوما وقرأ عليهم القرآن.

 فقد ثبت ذلك في الصحيحين وفي غيرهما.

وقد ذكر العلماء أسبابا للهداية من أهمها:

 1- الإيمان بالله، قال تعالى: ومن يؤمن بالله يهد قلبه {التغابن:11}

 2- المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: واتبعوه لعلكم تهتدون {لأعراف: 158}، وقال: وإن تطيعوه تهتدوا {النور: 54}.

 3- الحرص على تعلم الوحي والعمل بما علم منه، قال تعالى: ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا* وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما * ولهديناهم صراطا مستقيما {النساء: 66-68}.

 4- المواظبة على العبادات من صلاة وزكاة وصوم وغيرها، قال تعالى: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين {التوبة:18} وعسى من الله واجبة كما قال ابن عباس.

5- وجود العاطفة الربانية التي تجعل المسلم يحب ويبغض ويعطي ويمنع لله ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار.

 وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان. والحديث صححه الألباني.

 إلى غير ذلك من الأسباب التي ذكر بعضها في الفتوى رقم:16610، مع المحافظة على البعد عن أسباب ضعف الإيمان، وقد ذكر بعضها في الفتوى رقم: 10800.

و ينبغي للدعاة وللمسلمين عموما أن يتحلوا بالشمولية والواقعية، وأن يكون لديهم التوازن الذي يمنع من طغيان جانب على حساب الآخر، فلا تطغى حياتهم الدعوية والتعبدية على حياتهم البشرية والاستجابة لحاجتهم وحاجة أمتهم المادية، فلا تترك الأسباب الشرعية بالكلية بدعوى التوكل، ولا يعتمد على الأسباب فان الاتكال على الله تعالى لا ينافي بذل الأسباب المشروعة

فهذا التوازن الذي يضع كل شيء في محله، ويعطي كل ذي حق حقه، من أعظم محاسن دين الله الذي لم يحرف ولم يبدل.. وهو دين الإسلام.

 ولهذا نلاحظ طغيان الجانب الروحي على الديانة المسيحية بسبب ما أصابها من التحريف مما جعلهم يرفضونها، ويتمردون عليها لأنها تصطدم بالفطرة الإنسانية، ونرى الفلسفة المادية الغربية تهمل الجانب الروحي مما أدى بكثير منهم إلى الفرار منها لإشباع خوائهم الروحي... بل ربما أدى بهم ذلك إلى الانتحار -والعياذ بالله- وذلك للتخلص من الهموم.

وليعلم أن الله قد تكفل للعباد برزقهم فقد قال الله تعالى: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها {هود: 4}.

 وقال تعالى: وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم {العنكبوت: 60}.

 وقال تعالى: ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم {الأنعام: 151}.

 وفي الحديث: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد. رواه مسلم.

وليعلم أن الأعمال الصالحة والصلاة والدعاء هي أكبر عون على قضاء الحاجات وقد قال الله تعالى: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة {النحل:97}.

 وقال: ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا {الطلاق:4}.

 وقال: ومن يتق الله يجعل له مخرجا (2) ويرزقه من حيث لا يحتسب {الطلاق:2، 3}.

 وقال: واتقوا الله لعلكم تفلحون {البقرة:189}.

 وقال الله تعالى: واستعينوا بالصبر والصلاة {البقرة: 45}

 وفي الحديث: إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء. رواه أحمد والترمذي والحاكم وحسنه الألباني.

وقال صلى الله عليه وسلم: من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل. رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع.

ولكن هذا لا ينافي أن يباشر العبد الأسباب المشروعة ويتكسب ولا أن يحرص على التحصيل الدراسي طلبا للحصول على وظيفة تساعد في التكسب المشروع، لأن التكسب لا ينافي التوكل، بل هو من التوكل لأنه من باب اتخاذ الأسباب التي أمر الشارع بها، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "قيدها وتوكل". رواه الخطيب في رواية مالك عن ابن عمر وصححه الألباني.

فالمسلم ينبغي أن يكون قوي العزيمة، ماضي الإرادة، نشيطا في تحقيق مصالحه مستعينا في كل أموره بالله سبحانه وتعالى، وقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في التكسب والسعي والتحرك واستغناء المرء عن الآخرين وأكله من كسب يده، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطط للحروب والغزوات كما خطط للهجرة من مكة إلى المدينة، وأمر الله المؤمنين بأن يأخذوا حذرهم إلى آخر ذلك من الأمور الدالة على ما ذكرنا.

وهذا هو هدي الأنبياء والصحابة والعلماء، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحث على عمل اليد: ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده. رواه البخاري

 وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أي الكسب أطيب؟ فقال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور. رواه أحمد والحاكم وصححه الألباني.

 وقال: إن أطيب ما أكلتم من كسبكم. رواه الترمذي وقال فيه: حسن صحيح.

 وقال: لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا. رواه الترمذي والحاكم وصححه الألباني. وقال صلى الله عليه وسلم: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان. رواه مسلم

وقال: لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه. رواه البخاري.

و قال النبي صلى الله عليه وسلم : الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله. رواه ابن ماجه وصححه الألباني.

 وروى كعب بن عجرة أنه مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلده ونشاطه فقالوا: يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان. رواه الطبراني وقال المنذري والهيثمي رجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني.

 وقد كان أصحاب النبي يتاجرون ويزرعون ويؤجرون أنفسهم، وكان من سلف هذه الأمة من يمتهن المهن ويتكسب بها حتى اشتهر بعضهم بنسبته لمهنته أو مكان عمله كالبزار والخواص والدارقطني والدباغ والحداد والبقال، وكان من الصحابة من يؤجر نفسه عند الحاجة بشيء من التمر ثم يرجع بعدما يحقق مهمته.

 فقد روى الطبراني في الأوسط عن كعب بن عجرة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فرأيته متغيرا فقلت: بأبي أنت ما لي أراك متغيرا؟ قال: ما دخل في جوفي ما يدخل جوف ذات كبد منذ ثلاث. قال: فذهبت، فإذا بيهودي يسقي إبلا له، فسقيت له على كل دلو بتمرة فجمعت تمرا، فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: من أين لك يا كعب؟ فأخبرته... الحديث. والحديث حسنه الألباني في صحيح الترغيب.

 فهذا الحديث يدل على عدم استنكاف الصحابة عما تيسر من الأعمال مهما قل إنتاجها، وعلى أخذهم ما يحتاجونه عن طريق التكسب.

فعلى المسلم أن يتابعهم في إيمانهم ودعوتهم، وفي هديهم في التكسب، وفي توظيف أوقاتهم. وبالاقتداء بالصحابة ومن تابعهم بإحسان في فهمهم للوحي وتطبيقهم له؛ يسلم العبد من الانحراف والغلو والتقصير لأنهم أزكى هذه الأمة نفوسا وأطهرها قلوبا وأكثرها علما وأقلها تكلفا،كما وصفهم ابن مسعود، وقد زكاهم الله عز وجل وأكثر من الثناء عليهم في القرآن فوعدهم بالجنة وأخبر برضوانه عنهم وبأنهم صدقوا في إيمانهم.

 ولأنهم قوم نزل القرآن بلسانهم وشاهدوا مواقع التنزيل، فكانوا بلا شك أعلم هذه الأمة بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم وأدراهم بمقاصدها، ولشهادة النبي صلى الله عليه وسلم لهم بأنهم خير الأمة، فقال: خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. رواه البخاري.

 ولإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا نجاة إذا حصل الافتراق في هذه الأمة، إلا باتباع ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقد روى الترمذي في جامعه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي. حسنه الألباني.

ولا نعلم من ترك التكسب من الصحابة إلا أهل الصفة والسبب كونهم فقراء لا أهل لهم ولا مال.

 ففي تحفة الأحوذي للمباركفورى قال: هم زهاد من الصحابة فقراء غرباء وكانوا سبعين ويقلون حينا ويكثرون حينا يسكنون صفة المسجد لا مسكن لهم ولا مال ولا ولد وكانوا متوكلين ينتظرون من يتصدق عليهم بشيء يأكلونه ويلبسونه. اهـ

وقد كان أفضل من هؤلاء منهجا الصحابة الذين جمعوا بين الجهاد والتعلم والتكسب، وكانوا ينفقون على أهل الصفة، فقد روى الشيخان واللفظ لمسلم عن أنس بن مالك قال: جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أن ابعث معنا رجالا يعلمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار يقال لهم القراء فيهم خالي حرام يقرؤون القرآن ويتدارسون بالليل يتعلمون وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء، فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان فقالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا، قال وأتى رجل حراما خال أنس من خلفه فطعنه برمح حتى أنفذه فقال حرام: فزت ورب الكعبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إن إخوانكم قد قتلوا، وإنهم قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا.

 وأما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فقد أنفقا وبذلا في نصر الدين نفيس ما يملكانه من مال ووقت، ولكنا لم نعثر على ما يفيد تركهما للتجارة تركا كليا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولما ولي أبو بكر الخلافة وضع له خيار الصحابة مرتبا ليتفرغ لمهام الخلافة، ولما توفي أوصى عائشة أن ترد لعمر ما أعطي له.

وقد كان عند عمر رضي الله برنامج يوازن فيه بين حاجته لحضور مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وحاجته للكسب فقد روى البخاري عن عمر قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوما وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته فضرب بابي ضربا شديدا فقال: أثم هو ففزعت فخرجت إليه فقال: قد حدث أمر عظيم قال: فدخلت على حفصة فإذا هي تبكي فقلت طلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: لا أدري. ثم دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت وأنا قائم أطلقت نساءك قال: لا فقلت: الله أكبر.

وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم حال من شكوا إليه من الصحابة تأثير اشتغالهم بعيالهم وكسبهم على ما كان عندهم من مستوى إيماني رفيع بسبب مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح مسلم عن حنظلة الأسيدي قال: لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة قال قلت: نافق حنظلة قال سبحان الله ما تقول قال قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا قال أبو بكر فوالله إنا لنلقى مثل هذا فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت نافق حنظلة يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك قلت يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات.

وأما التخلف عن الدروس الجامعية وإهمال الدراسة حتى يرسب الطالب فليس من خلق المسلم لما فيه من إخلاف الوعد الذي هو مستحب عند جمهور الفقهاء، كما بيناه في الفتوى رقم: 17057.

ولكنه لو سجلت بعض الفتيات في الجامعة بنية دعوة الطالبات وكن متطوعات للدعوة فنرجو لهن المثوبة من الله إذ يتعين على الأمة أن يتفرغ منها من يقوم بهذه المهمة، ولكنه لا يلزم جميع الطالبات ان يضحين بدراستهن بل الأولى أن يبرمجن فيعطين من أوقاتهن للدعوة بعض الوقت ويشتغلن بدراستهن بعض الوقت عملا بالحديث: ولكن يا حنظلة ساعة وساعة.

وأما الجلوس مع هؤلاء النسوة والاستفادة منهن فيما هو حق فلا حرج فيه، فإن الحق يؤخذ ممن جاء به من صغير أو كبير، فإن الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها أخذها، وقد ثبت في البخاري أن أبا هريرة رضي الله عنه قبل الإفادة من شخص جرب فيه الكذب والسرقة ثلاث مرات.

ففي البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم وكله بحفظ زكاة رمضان، فأتاه آت، فجعل يحثو من الطعام، فأمسكه، وقال: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني محتاج، وعلي عيال، ولي حاجة شديدة، فتركه أبو هريرة على أنه لن يعود، وفعل معه ذلك ثلاث مرات، وفي آخر الحديث يقول أبو هريرة: قلت: يا رسول الله: زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: ما هي؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: الله لا إله إلا هو الحي القيوم {البقرة: 255}. وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا أحرص شيء على الخير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ قال: لا. قال: ذاك شيطان.

وأما زعم أن هناك عددا محدودا للأوامر والسنن فلا نعلم دليلا عليه والمعروف عند الأصوليين أن السنة لا عقاب في تركها، وان الواجب هو ما أمر به الشارع أو طلبه على وجه الحتم والإلزام، فهو الذي يثاب فاعله ويستحق تاركه العقاب، فالمؤمن يحرص على الانقياد الكامل لله تعالى والإيمان بالكتاب كله والدخول في السلم كافة ويطرق جميع أبواب الخير عملا بقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة {البقرة: 208} وبقوله تعالى: وتؤمنون بالكتاب كله{آل عمران: 119} ولا يلزم من ذلك عقابه على ترك السنن ولا الفروض التي لم تجب في حقه كالزكاة والحج للفقير وغير ذلك.

 وأما التزهيد في العلماء الذين يوثق بعلمهم والاستعانة بهم في فهم نصوص الوحي وسؤالهم عما يشكل فهو خلاف الصواب فكيف يستغني المسلم عن العلماء والله سبحانه وتعالى يقول: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " إنما شفاء العي السؤال ". رواه أبو داود.

ولا شك أن التقوى من أسباب الإعانة على العلم وترسيخه، وبها يفتح الله على العبد من الفهم ما لم يخطر بالبال، فقد قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم] {الحديد:28} وقال تعالى واتقوا الله ويعلمكم الله {البقرة: 282}

ولكنه لا بد من الاستعانة بالعلماء في فهم نصوص الوحي، وسؤالهم عما يشكل إذ لا يؤمن على من استغنى بفهمه الخاص أن ينحرف ويقع في البدعة.

هذا، وننصحكن بدراسة الشرع دراسة مرتبطة بالدليل، وسؤال العلماء عما أشكل عليكن مما اختلف فيه، وبقيام الليل، والدعاء في استفتاح القيام بما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح به دائما، كما في حديث عائشة أنه كان إذا قام من الليل افتتح صلاته " اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " أخرجه مسلم.

 وراجعن الفتاوى التالية أرقامها للمزيد فيما ذكرنا، ولمعرفة خطر المعاصي على القلوب وحسن الظن بالعلماء:22072، 4812، 7583، 19193، 33433، 8280، 25309، 58013،8580، 53998، 57017، 71473، 10262، 33346.  

  والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى