الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد اختلف أهل العلم في صوت المرأة هل هو عورة فيحرم سماعه كما يحرم النظر إليها أم ليس بعورة، فيجوز سماعه؟
قال ابن عابدين في حاشيته على الدر المختار وهو حنفي قوله: (وصوتها) معطوف على المستثنى يعني أنه ليس بعورة... وأقره البرهان الحلبي في شرح المنية الكبير وكذا في الإمداد ثم نقل على خط العلامة المقدسي ذكر الإمام أبو العباس القرطبي في كتابه في السماع ولا يظن من لا فطنة عنده أنا إذا قلنا صوت المرأة عورة أنا نريد بذلك كلامها لأن ذلك ليس بصحيح فإنا نجيز الكلام مع النساء للأجانب ومحاورتهن عند الحاجة إلى ذلك..
وقال الدسوقي في حاشيته وهو مالكي بعد أن ذكر القول بمنع أذان المرأة لكون صوتها عورة: وقد يقال إن صوت المرأة ليس عورة حقيقة بدليل رواية الحديث عن النساء الصحابيات وإنما هو كالعورة في حرمة التلذذ بكل وحينئذ فحمل الكراهة على ظاهرها وجيه. وفي المذهب أن صوتها ليس بعورة وذكر العدوي في حاشيته أن ذلك هو المعتمد، فقال معلقا على قول الخرشي: المرأة دون الرجل في الجهر بأن تسمع نفسها فقط فيكون أعلى جهرها وأدناه واحدا وعلى هذا يستوي في حقها السر والجهر... لأن صوتها عورة وربما كان فتنة. قال العدوي: لأن صوتها عورة. المعتمد كما أفاده الناصر اللقاني في فتاويه وشيخنا الصغير أنه ليس بعورة ونص الناصر: رفع صوت المرأة التي يخشى التلذذ بسماعه لا يجوز من هذه الحيثية.اهـ
وقال النووي في المجموع وهو شافعي: وبالغ القاضي حسين فقال: هل صوت المرأة عورة فيه وجهان الأصح أنه ليس بعورة، وفي البجيرمي. وصوتها ليس بعورة على الأصح لكن يحرم الإصغاء إليه عند خوف الفتنة. وقال الشربيني الشافعي في مغني المحتاج: وصوت المرأة ليس بعورة ويجوز الإصغاء إليه عند أمن الفتنة.
وقال المرداوي في الإنصاف وهو حنبلي: صوت الأجنبية ليس بعورة، على الصحيح من المذهب. وقال البهوتي الحنبلي في شرح منتهى الإرادات: وصوت الأجنبية ليس بعورة ويحرم تلذذ بسماعه... ولو كان صوتها بقراءة لأنه يدعو إلى الفتنة بها.
هذه هي أقوال المذاهب الأربعة في صوت المرأة وحكم سماع الرجال له، وكلها مجمعة على حرمته إذا خشيت منه الفتنة لتمطيطه وتليينه وخضوعها به، و أما إذا خلا من ذلك كأن يكون لتعليم أو طلب حاجة وسؤال ونحوه فلا حرج فيه، وهذا هو الصحيح الراجح.
قال الغزالي رحمه الله تعالى في الإحياء: وصوت المرأة في غير الغناء ليس بعورة، فلم تزل النساء في زمن الصحابة رضي الله عنهم يكلمن الرجال في السلام والاستفتاء والسؤال والمشاورة وغير ذلك، ولكن للغناء مزيد أثر في تحريك الشهوة.
وللشيخ سيد قطب رحمه الله تعالى كلام جميل جليل ذكره في الظلال عند قوله تعالى: فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض... ينهاهن حين يخاطبن الأغراب من الرجال أن يكون في نبراتهن ذلك الخضوع اللين الذي يثير شهوات الرجال، ويحرك غرائزهم ويطمع مرضى القلوب ويهيج رغائبهم! ومن هن اللواتي يحذرهن الله هذا التحذير إنهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأمهات المؤمنين، اللواتي لا يطمع فيهن طامع، ولا يرف عليهن خاطر مريض، فيما يبدو للعقل أول مرة، وفي أي عهد يكون هذا التحذير؟ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الصفوة المختارة من البشرية في جميع الأعصار.. ولكن الله الذي خلق الرجال والنساء يعلم أن في صوت المرأة حين تخضع بالقول، وتترقق في اللفظ، ما يثير الطمع في قلوب، ويهيج الفتنة في قلوب، وأن القلوب المريضة التي تثار وتطمع موجودة في كل عهد، وفي كل بيئة، وتجاه كل امرأة، ولو كانت هي زوج النبي الكريم، وأم المؤمنين. وأنه لا طهارة من الدنس، ولا تخلص من الرجس، حتى تمتنع الأسباب المثيرة من الأساس.
فكيف بهذا المجتمع الذي نعيش اليوم فيه، في عصرنا المريض الدنس الهابط، الذي تهيج فيه الفتن وتثور فيه الشهوات، وترف فيه الأطماع؟ كيف بنا في هذا الجو الذي كل شيء فيه يثير الفتنة، ويهيج الشهوة وينبه الغريزة، ويوقظ السعار الجنسي المحموم؟ كيف بنا في هذا المجتمع في هذا العصر، في هذا الجو، ونساء يتخنثن في نبراتهن، ويتميعن في أصواتهن، ويجمعن كل فتنة الأنثى، وكل هتاف الجنس، وكل سعار الشهوة ثم يطلقنه في نبرات ونغمات! وأين هن من الطهارة؟ وكيف يمكن أن يرف الطهر في هذا الجو الملوث، وهن بذواتهن وحركاتهن وأصواتهن ذلك الرجس الذي يريد الله أن يذهبه عن عباده المختارين؟ (وقلن قولا معروفا).. نهاهن من قبل عن النبرة اللينة واللهجة الخاضعة وأمرهن في هذه أن يكون حديثهن في أمور معروفة غير منكرة، فإن موضوع الحديث قد يطمع مثل لهجة الحديث. فلا ينبغي أن يكون بين المرأة والرجل الغريب لحن ولا إيماء، ولا هذر ولا هزل، ولا دعابة ولا مزاح كي لا يكون مدخلا إلى شيء آخر وراءه من قريب ولا بعيد. انتهى.
وخلاصة القول أن صوت المرأة إذا أمنت منه الفتنة وكان قولا معروفا لا خضوع فيه ولا فحش وكان لحاجة كتعليم أو سؤال ونحوه لا حرج فيه، فانظري أيتها الأخت السائلة إذا كان هذا ما يتحقق في إلقائك للدرس على الطلاب وبينهم رجال أجانب، فيجوز لك ذلك، أم لا فتكفي وتبتعدي، والأولى والذي ننصحك به ما دمت لست ملزمة بالإلقاء أن تتجنبيه، فإنه أبعد عن الريبة. ولمعرفة حكم الدراسة المختلطة وضوابط جوازها انظري الفتوى رقم: 17191، والفتوى رقم: 5310، والفتوى رقم: 50423.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياك لما يحبه ويرضاه، ويرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، ويهيئ لنا من أمرنا رشد؛ إنه سميع مجيب.
والله أعلم.