السؤال
فضيلة الشيخ عندما سأل قوم إبراهيم عن الذي كسر الأصنام أشار إبراهيم عليه السلام إلى الصنم الكبير.. فهل قصد إبراهيم أصبعه هو الكبير (أكبر أصابع اليد) حتى لا يكذب لأن الأنبياء معصومون من الخطأ أم أنه كذب فعلا وأشار إلى الصنم الكبير، إذا كان إبراهيم لم يكذب لماذا سيقول عندما يأتي إليه الناس يوم القيامة للشفاعة اذهبوا إلى غيري لأني تذكرت كذبتي (بل فعله كبيرهم) ويقول نفسي نفسي؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فلم نجد من أهل العلم من نص على أن إبراهيم عليه السلام قصد بما ذكر عنه في الآية كبير أصابعه، وللعلماء في توجيه مراده مسلكان رئيسيان: أحدهما: أنه لم يكذب وإنما استخدم التورية. والثاني: أنه كذب كذبا غير مذموم شرعا للمصلحة، واعتذاره في حديث الشفاعة هو من باب إشفاق الأنبياء وخاصة في ذلك اليوم، وإليك بيان ذلك من كلام أهل العلم.
قال البغوي في تفسيره: فلما أتوا به، (قالوا) له (أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم)؟ (قال) إبراهيم (بل فعله كبيرهم هذا) غضب من أن تعبدوا معه هذه الصغار وهو أكبر منها فكسرهن، وأراد بذلك إبراهيم إقامة الحجة عليهم، فذلك قوله (فاسألوهم إن كانوا ينطقون) حتى يخبروا من فعل ذلك بهم.
قال القتيبي: معناه بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون على سبيل الشرط، فجعل النطق شرطا للفعل، أي إن قدروا على النطق قدروا على الفعل، فأراهم عجزهم عن النطق، وفي (ضمنه) أنا فعلت...
وروي عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله (بل فعله) ويقول: معناه (فعله) من فعله، والأول أصح لما روي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، اثنتان منهن في ذات الله، قوله (إني سقيم)، وقوله (بل فعله كبيرهم) وقوله لسارة (هذه أختي) وقيل في قوله: (إني سقيم) أي سأسقم، وقيل: سقم القلب أي مغتم بضلالتكم، وقوله لسارة: هذه أختي أي في الدين، وهذه التأويلات لنفي الكذب عن إبراهيم، والأولى هو الأول للحديث فيه، ويجوز أن يكون الله عز وجل أذن له في ذلك لقصد الصلاح وتوبيخهم والاحتجاج عليهم، كما أذن ليوسف حتى أمر مناديه فقال لإخوته (أيتها العير إنكم لسارقون)، ولم يكونوا سرقوا. انتهى كلام البغوي.
وقال ابن عاشور في التحرير والتنوير: أما الإخبار بقوله (فعله كبيرهم هذا) فليس كذبا وإن كان مخالفا للواقع ولاعتقاد المتكلم لأن الكلام والأخبار إنما تستقر بأواخرها وما يعقبها، كالكلام المعقب بشرط أو استثناء، فإنه لما قصد تنبيههم على خطأ عبادتهم للأصنام مهد لذلك كلاما هو جار على الفرض والتقدير فكأنه قال: لو كان هذا إلها لما رضي بالاعتداء على شركائه، فلما حصل الاعتداء عليهم بمحضر كبيرهم تعين أن يكون هو الفاعل لذلك، ثم ارتقى في الاستدلال بأن سلب الإلهية عن جميعهم بقوله (إن كانوا ينطقون) كما تقدم، فالمراد من الحديث أنها كذبات في بادئ الأمر وأنها عند التأمل يظهر المقصود منها، وذلك أن النهي عن الكذب إنما علته خدع المخاطب وما يتسبب على الخبر المكذوب من جريان الأعمال على اعتبار الواقع بخلافه، فإذا كان الخبر يعقب بالصدق لم يكن ذلك من الكذب بل كان تعريضا أو مزحا أو نحوهما.
وأما ما ورد في حديث الشفاعة: فيقول إبراهيم: لست هناكم ويذكر كذبات كذبها. فمعناه أنه يذكر أنه قال كلاما خلافا للواقع بدون إذن من الله بوحي، ولكنه ارتكب قول خلاف الواقع لضرورة الاستدلال بحسب اجتهاده فخشي أن لا يصادف اجتهاده الصواب من مراد الله فخشي عتاب الله فتخلص من ذلك الموقف. انتهى كلام ابن عاشور.
وقال القرطبي في التفسير: فإن الأنبياء يشفقون مما لا يشفق منه غيرهم إجلالا لله، فإن الذي كان يليق بمرتبته في النبوة والخلة، أن يصدع بالحق ويصرح بالأمر كيفما كان، ولكنه رخص له فقبل الرخصة فكان ما كان من القصة، ولهذا جاء في حديث الشفاعة إنما اتخذت خليلا من وراء وراء...
والله أعلم.