وأما المعقول ; فمن أربعة أوجه :
الأول : أن إجماعهم ربما كان عن اجتهاد وظن ،
ولا حجر على المجتهد إذا تغير اجتهاده ، وإلا كان الاجتهاد مانعا من الاجتهاد وهو ممتنع ، وذلك لأن العادة جارية بأن الرأي والنظر عند المراجعة وتكرر النظر يكون أوضح وأصح .
ويدل عليه قوله تعالى : (
وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ) ، جعلوا بادي الرأي ذما وطعنا فلا يجوز أن يكون محكما على الرأي الثاني .
الوجه الثاني : أنه لو لم تعتبر المخالفة في عصرهم لبطل مذهب المخالف لهم في عصرهم بموته ; لأن من بقي بعده كل الأمة ، وذلك خلاف الإجماع .
[ ص: 259 ] الوجه الثالث أن قول الجماعة لا يزيد على قول النبي عليه السلام ، ووفاة النبي شرط في استقرار الحجة فيما يقوله ، فاشتراط ذاك في استقرار قول الجماعة أولى .
الوجه الرابع : أنه لو لم يشترط انقراض العصر وإلا فبتقدير أن يتذكر واحد منهم أو جماعة منهم أو جملتهم حديثا عن رسول الله على خلاف إجماعهم ، فإن جاز رجوعهم إليه كان الإجماع الأول خطأ ، وإن لم يجز الرجوع كان استمرارهم على الحكم مع ظهور دليل يناقضه ، وهو أيضا خطأ ولا مخلص منه إلا باشتراط انقراض العصر .
والجواب عن الآية من وجهين :
الأول : أنه لا يلزم من وصفهم بأنهم شهداء على الناس وحجة على غيرهم امتناع كون أقوالهم حجة على أنفسهم إلا بطريق المفهوم ولا حجة فيه على ما يأتي ، بل ربما كان قبول قولهم على أنفسهم أولى من قبوله على غيرهم لعدم التهمة ، وتكون فائدة التخصيص التنبيه بالأدنى على الأعلى ، ولهذا فإنه قد يقبل إقرار المرء على نفسه وإن كان لا تقبل شهادته على غيره .
الثاني : أن المراد بجعلهم شهداء على الناس في يوم القيامة بإبلاغ الأنبياء إليهم فلا يكون ذلك حجة فيما نحن فيه .
وعن الآثار
>[1] : أما قول
علي فليس فيه ما يدل على اتفاق الأمة وإلا قال : رأيي ورأي الأمة ، والذي يدل على ذلك أنه قد نقل أن
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله كان يرى جواز بيعهن في زمن
عمر ومع مخالفته فلا إجماع ، وقول
السلماني ليس فيه أيضا ما يدل على اتفاق الجماعة على ذلك ; لأنه يحتمل أنه أراد به : رأيك مع رأي الجماعة ، ويحتمل أنه أراد به : رأيك في زمن الجماعة والإلفة والطاعة للإمام أحب إلينا من رأيك في زمن الفتنة وتشتيت الكلمة ، نفيا للتهمة عن
علي في تطرقها إليه في
[ ص: 260 ] مخالفة الشيخين ، وبتقدير أن يكون
علي قد خالف بعد انعقاد الإجماع فلعله كان ممن يرى اشتراط انقراض العصر ، ولا حجة في قول الواحد في محل النزاع .
وأما قضية التسوية فلا نسلم أن
عمر خالف فيها بعد الوفاق فإنه روي أنه خالف
أبا بكر في ذلك في زمانه ، وقال له : أتجعل من جاهد في سبيل الله بنفسه وماله كمن دخل في الإسلام كرها ، فقال
أبو بكر : إنما عملوا لله وإنما أجرهم على الله وإنما الدنيا بلاغ .
ولم يرو أن
عمر رجع إلى قول
أبي بكر ، وإنما فضل في زمانه وعود الأمر إليه
>[2] ; لأنه كان مصرا على المخالفة .
وأما حده للشارب ثمانين ، فغايته أنه خالف الإجماع السكوتي ، ونحن نقول بجواز ذلك ; لكونه كان من جملة الساكتين على ما بيناه في المسألة المتقدمة .
وعن الحجة الأولى من المعقول ، أنه وإن كان مصير كل واحد من المجتهدين إلى الحكم عن اجتهاد وظن ولكن بعد اتفاقهم على الحكم إنما يجوز الرجوع عنه بالاجتهاد أن لو لم يصر الحكم بإجماعهم قطعيا .
وأما إذا صار قطعيا فيمتنع العود عنه وتركه بالاجتهاد الظني ، وهذا بخلاف العود عن الاجتهاد الظني بالاجتهاد الظني .
وعن الثانية أنه قد ذهب بعض من نص هذا المذهب إلى إبطال مذهب المخالف بموته ، وقال بانعقاد إجماع من بقي ومنهم من قال : إنما
>[3] لم يبطل مذهبه ولا ينعقد الإجماع بعده ; لأن من بعده ليس هم كل الأمة بالنسبة إلى هذه المسألة التي خالف فيها الميت ، فإن فتواه لا تبطل بموته وهو الحق .
وعن الثالثة : بالفرق بين النبي عليه السلام والأمة أن قوله إنما لم يستقر قبل موته لإمكان نسخه من الله تعالى وهو مرتقب .
وذلك إنما هو بالوحي القاطع ، ورفع القاطع بالقاطع على طريق النسخ غير ممتنع بخلاف رفع حكم الإجماع القاطع بطريق الاجتهاد .
وعن الرابعة : أن ما فرضوه من تذكر الخبر المخالف لإجماعهم فهو فرض محال ، بل الله تعالى يعصم الأمة عن الإجماع على خلاف الخبر ، وذلك يوجب إما عدم الخبر المخالف أو أن يعصم الراوي له عن النسيان إلى تمام انعقاد الإجماع ، وعلى هذا يكون الحكم فيما يقال من اطلاع التابعين على خبر مخالف للإجماع السابق .