[ ص: 261 ] المسألة السابعة عشرة
اتفق الكل على أن الأمة لا تجتمع عن
>[1] الحكم إلا عن مأخذ
ومستند يوجب اجتماعها خلافا لطائفة شاذة ، فإنهم قالوا بجواز انعقاد الإجماع عن توفيق لا توقيف بأن يوفقهم الله تعالى لاختيار الصواب من غير مستند .
وقد احتج النافون لذلك بمسالك :
المسلك الأول : أنهم قالوا مع فقد الدليل والمستند لا يجب الوصول إلى الحق ، أي : لا يلزم .
ولقائل أن يقول : متى لا يلزم ذلك ، إذا لم تجمع الأمة على الحكم أو إذا أجمعت ، الأول مسلم ، والثاني دعوى محل النزاع ، فإنه ما المانع أنهم إذا اتفق إجماعهم أن يوفقهم الله تعالى للصواب ضرورة استحالة إجماعهم على الخطأ لما سبق في المسالك السمعية ، والكلام إنما هو في جواز ذلك لا في وقوعه .
المسلك الثاني : أن الصحابة ليسوا بآكد حال من النبي عليه السلام ، ومعلوم أنه لا يقول ولا يحكم إلا عن وحي على ما نطق به النص ، فالأمة أولى أن لا تقول إلا عن دليل .
ولقائل أن يقول : إذا دل الدليل على امتناع الخطأ على الرسول فيما يقول وكذلك الأمة ، فلو قال الرسول قولا وحكم بحكم من غير دليل لما كان إلا حقا ضرورة استحالة الخطأ عليه
>[2] ، غير أنه امتنع منه الحكم والقول من غير دليل لقوله تعالى : (
وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى )
>[3]
وأما الأمة فقد دل الدليل على استحالة الخطأ عليهم فيما أجمعوا عليه ، ولم يدل على أنهم لا يحكمون إلا عن دليل
>[4] فافترقا .
[ ص: 262 ] المسلك الثالث : أنه لو جاز أن يحكموا من غير مستند لجاز ذلك لكل واحد منهم ، فإنهم إنما يجمعون على الحكم بأن يقول كل واحد به ، ولو جاز ذلك لآحادهم لم يكن للجمع في ذلك مزية على الآحاد .
ولقائل أن يقول : المزية للجمع على الآحاد من وجهين :
الأول : أن إجماعهم يكون حجة بخلاف قول كل واحد من الآحاد
>[5]
الثاني : أن جواز ذلك للآحاد مشروط بضم قول الباقي إليه لا أنه جائز من غير ضم ، ولا كذلك قول الجميع فإنه جائز على الإطلاق
>[6] .
المسلك الرابع : إن القول في الدين من غير دلالة ولا أمارة خطأ ، فلو اتفقوا عليه كانوا مجمعين على الخطأ ، وذلك محال قادح في الإجماع .
ولقائل أن يقول : متى يكون ذلك خطأ ، إذا لم تجمع الأمة عليه أو إذا أجمعت ؟ الأول مسلم ، والثاني دعوى محل النزاع .
المسلك الخامس : أن المقالة إذا لم تستند إلى دليل لا يعلم انتسابها إلى وضع الشارع ، وما يكون كذلك لا يجوز الأخذ به .
ولقائل أن يقول : إما أن يراد بأنه لا يعرف انتسابها إلى وضع الشارع : أنه لا يعرف ذلك عن دليل شرعي ، أو أنه لا يعلم كونها مصيبة لحكم الشارع ، أو معنى آخر .
الأول مسلم ، وهذا هو عين صورة الواقع المختلف فيه ، والثاني دعوى محل النزاع ، والثالث فلا بد من تصويره والدلالة عليه
>[7] .
[ ص: 263 ] المسلك السادس : أنه لو جاز
انعقاد الإجماع من غير دليل لم يكن لاشتراط الاجتهاد في قول المجمعين معنى ، وهو محال ; لأن اشتراط الاجتهاد مجمع عليه .
ولقائل أن يقول : الاجتهاد مشترط لا حالة الإجماع ، أو حالة الإجماع ؟
الأول مسلم ، والثاني دعوى محل النزاع .
فإن الخصم إذا قال بجواز الإصابة وامتناع الخطأ على الإجماع من غير دليل ، كيف يسلم اشتراط الاجتهاد في مثل هذه الصورة ؟ فهذه جملة ما ظفرت به من مسالك النافين وليس شيء منها موجبا لاستبعاد مقالة المخالف ، والحكم ببعده عن الصواب .
وأما المثبتون فقد احتجوا بمسلكين :
الأول : أن الإجماع حجة ، فلو افتقر في جعله حجة إلى دليل لكان ذلك الدليل هو الحجة في إثبات الحكم المجمع عليه ، ولم يكن في إثبات كون الإجماع حجة فائدة وهو باطل من ثلاثة أوجه :
الأول : أنه أمكن أن يقال فائدة كون الإجماع حجة جواز الأخذ به ، وإسقاط البحث عن ذلك الدليل ، وحرمة المخالفة الجائزة قبل الاتفاق .
الثاني : أن ما ذكروه يوجب عدم انعقاد الإجماع عن الدليل ولم يقولوا به .
الثالث : أنه ينتقض بقول الرسول ، فإنه حجة بالاتفاق مع أنه لا يقول ما يقوله إلا عن دليل ، وهو ما يوحي به إليه على ما نطق به النص
>[8] .
المسلك الثاني : استدلالهم بالواقع ، وهو أنهم قالوا : قد انعقد الإجماع من غير دليل كإجماعهم على أجرة الحمام ، وناصب الحباب على الطريق ، وأجرة الحلاق وآخذ الخراج ونحوه .
ولقائل أن يقول : لا نسلم وقوع شيء من الإجماعات إلا عن دليل غايته أنه لم ينقل الاكتفاء بالإجماع عنه ، وإذا عرف ضعف المأخذ من الجانبين فالواجب أن يقال إنهم إن أجمعوا عن غير دليل ، فلا يكون إجماعهم إلا حقا ضرورة استحالة الخطأ عليهم .
وأما أن يقال إنه لا يتصور إجماعهم إلا عن دليل أو يتصور ، فذلك مما قد ظهر ضعف المأخذ فيه من الجانبين
>[9] .