[ ص: 165 ] المسألة الخامسة
اختلفوا في
الأمر المطلق : هل يقتضي تعجيل فعل المأمور به ؟ فذهبت الحنفية والحنابلة ، وكل من قال بحمل الأمر على التكرار ، إلى وجوب التعجيل .
وذهبت الشافعية
والقاضي أبو بكر وجماعة من
الأشاعرة والجبائي وابنه
وأبو الحسين البصري إلى التراخي ، وجواز التأخير عن أول وقت الإمكان .
وأما الواقفية فقد توقفوا ، لكن منهم من قال : التوقف إنما هو في المؤخر هل هو ممتثل أو لا ؟ وأما المبادر فإنه ممتثل قطعا ، لكن هل يأثم بالتأخير ؟ اختلفوا فيه : فمنهم من قال بالتأثيم ، وهو اختيار
nindex.php?page=showalam&ids=12441إمام الحرمين ، ومنهم من لم يؤثمه .
ومنهم من توقف في المبادر أيضا ، وخالف في ذلك إجماع السلف .
والمختار أنه مهما فعل ، كان مقدما أو مؤخرا ، كان ممتثلا للأمر ، ولا إثم عليه بالتأخير .
والدليل على ذلك أن الأمر حقيقة في طلب الفعل لا غير ، فمهما أتى بالفعل في أي زمان كان ، مقدما أو مؤخرا كان آتيا بمدلول الأمر ، فيكون ممتثلا للأمر ولا إثم عليه بالتأخير ، لكونه آتيا بما أمر به على الوجه الذي أمر به ، وبيان أن مدلول الأمر طلب الفعل لا غير وجهان .
الأول : أنه دليل على طلب الفعل بالإجماع ، والأصل عدم دلالته على أمر خارج ، والزمان وإن كان لا بد منه من ضرورة وقوع الفعل المأمور به ، فلا يلزم أن يكون داخلا في مدلول الأمر ، فإن اللازم من الشيء أعم من الداخل في معناه ولا أن يكون متعينا ، كما لا تتعين الآلة في الضرب ، ولا الشخص المضروب ، وإن كان ذلك من ضرورات امتثال الأمر بالضرب .
الوجه الثاني : أنه يجوز ورود الأمر بالفعل على الفور وعلى التراخي ، ويصح مع ذلك أن يقال بوجود الأمر في الصورتين .
والأصل في الإطلاق الحقيقة ، ولا مشترك بين الصورتين سوى طلب الفعل ؛ لأن الأصل عدم ما سواه ، فيجب أن يكون هو مدلول الأمر في الصورتين ، دون ما به الاقتران من الزمان وغيره نفيا للتجوز والاشتراك عن اللفظ .
[ ص: 166 ] فإن قيل ما ذكرتموه في بيان امتناع خروج الوقت
>[1] عن الدخول في مقتضى الأمر معارض بما يدل على نقيضه . وبيانه من وجوه خمسة : الأول : أنه إذا قال السيد لعبده " اسقني ماء " فإنه يفهم منه تعجيل السقي حتى أنه يحسن لوم العبد وذمه في نظر العقلاء بتقدير التأخير . ولولا أنه من مقتضيات الأمر لما كان كذلك ، إذ الأصل عدم القرينة .
الثاني هو أن مدلول الأمر ، وهو الفعل المأمور به ، لا يقع إلا في وقت وزمان ، فوجب أن يكون الأمر مقتضيا للفعل في أقرب زمان كالمكان ، وكما لو قال لزوجته " أنت طالق " ولعبده " أنت حر " فإن مدلول لفظه يقع على الفور في أقرب زمان .
الثالث أن الأمر مشارك للنهي في مطلق الطلب ، والنهي مقتض للامتثال على الفور ، فوجب أن يكون الأمر كذلك .
الرابع : أن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده ، والنهي عن أضداد المأمور به مقتض للانتهاء عنها على الفور ، وذلك متوقف على فعل المأمور به على الفور ، فكان الأمر مقتضيا له على الفور .
الخامس : أنه تعالى عاتب إبليس ووبخه على مخالفة الأمر بالسجود
لآدم في الحال بقوله : (
ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ) ولو لم يكن الأمر بالسجود مقتضيا له في الحال ، لما حسن توبيخه عليه ، ولكان تلك عذرا لإبليس في تأخيره .
سلمنا عدم
دلالة الأمر على وجوب الفعل على الفور لفظا لكن لم قلتم إنه لا يكون مستلزما له بواسطة دلالته على أصل الوجوب ، وبيان ذلك من وجوه أربعة .
الأول : أن الأمر إذا دل على وجوب الفعل فقد أجمعنا على وجوب اعتقاده على الفور ، مع أن ذلك لم يكن مقتضى للأمر ، بل هو من لوازم مقتضاه فكان مقتضاه على الفور أولى لأصالته .
الثاني أن إجماع السلف منعقد على أن المبادر يخرج عن عهدة الأمر ، ولا إجماع في المؤخر ، فكان القول بالتعجيل أحوط وأولى .
[ ص: 167 ] الثالث أن الفعل واجب بالاتفاق ، فلو جاز تأخيره ، إما أن يجوز إلى غاية معينة ، أو لا إلى غاية .
فإن جاز تأخيره إلى غاية معينة ، فإما أن تكون معلومة للمأمور ، أو لا تكون معلومة له فإن كانت معلومة له ، فإما أن تكون مذكورة بأن يقال له ( إلى عشرة أيام ) مثلا أو موصوفة .
الأول خلاف الفرض ، إذ الفرض فيما إذا كان أمرا مطلقا غير مقيد بوقت في الذكر .
وإن كان الثاني فالوقت الموصوف لا يخرج بالإجماع عن الوقت الذي إذا انتهى إليه غلب على ظنه أنه لو أخر المأمور به عنه لفات ، وذلك لا يكون إلا بأمارة تدل عليه ، وهي بالإجماع غير خارجة عن الغرض المرجو وعلو السن ، وكل واحد من الأمرين مضطرب مختلف ، فإنه قد يموت قبل ذلك ، أو يعيش بعده فلا يعتمد عليه .
وإن كانت الغاية غير معلومة له مع أنه لا يجوز له التأخير عنها ، كان ذلك تكليفا بما لا يطاق ، وهو ممتنع ، وهذا كله فيما إذا جاز التأخير إلى غاية .
وإن كان التأخير لا إلى غاية ، فإما أن يجوز ذلك ببدل ، أو لا ببدل ، فإن كان ببدل ، فذلك البدل إما أن يكون واجبا أو غير واجب ، لا جائز أن لا يكون واجبا وإما لما كان بدلا عن الواجب بالإجماع .
وإن كان واجبا فهو ممتنع لوجوه أربعة . الأول : أنه لو كان واجبا لوجب إنباه المأمور حالة ورود الأمر نحوه على من حضر حذرا من فوات الواجب الذي هو البدل ، كما لو ضاق عليه الوقت وكان نائما ، الثاني : هو أن الأمر لا تعرض فيه لوجوب البدل ، والأصل عدم دليل آخر ، ويمتنع القول بوجوب ما لا دليل عليه .
الثالث : أن البدل لو كان واجبا ، لكان قائما مقام المبدل ومحصلا لمقصوده ، وإما لما كان بدلا ، لما فيه من فوات مقصود الأصل ، ويلزم من ذلك سقوط المأمور به بالكلية بتقدير الإتيان بالبدل ضرورة حصول مقصوده ، وهو محال .
الرابع : أنه لو كان البدل واجبا لم يخل إما أن يجوز تأخيره عن الوقت الثاني ، من ورود الأمر أو لا يجوز : فإن كان الأول فالكلام فيه كالكلام في أصل المأمور به ، وهو تسلسل ممتنع .
[ ص: 168 ] وإن كان الثاني ، فهو أيضا ممتنع ; لأن البدل لا يزيد على نفس المبدل ، ووقت المبدل غير معين فكذلك البدل ، وإن جاز التأخير أبدا لا ببدل ، ففيه إخراج الواجب عن حقيقته ، وهو محال .
الرابع : من الوجوه الأول أن امتثال المأمور به من الخيرات ، وهو سبب الثواب فوجب تعجيله لقوله تعالى : (
فاستبقوا الخيرات ) وقوله تعالى : (
وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض ) أمر بالمسارعة والمسابقة وهي التعجيل ، والأمر للوجوب .
والجواب عن الوجه الأول أنه إنما فهم التعجيل من أمر السيد بسقي الماء من الظن الحاصل بحاجة السيد إليه في الحال ، إذ الظاهر أنه لا يطلب سقي الماء من غير حاجة إليه ، حتى أنه لو لم يعلم أو يظن أن حاجته إليه داعية في الحال ، لما فهم من أمره التعجيل ، ولا حسن ذم العبد بالتأخير .
فإن قيل : أهل العرف إنما يذمون العبد بمخالفة مطلق الأمر ، ويقولون في معرض الذم " خالف أمر سيده " وذلك يدل على أن مطلق الأمر هو المقتضي للتعجيل دون غيره .
قلنا : إنما نسلم صحة ذلك في الأمر المقيد بالقرينة دون المطلق ، والأمر فيما نحن فيه مقيد ، ثم هو معارض عند مطلق الأمر بصحة عذر العبد بقوله : " إنما أخرت لعدم علمي وظني بدعوى حاجته إليه في الحال " وليس أحد الأمرين أولى من الآخر .
وعن الثاني من وجهين .
الأول : لا نسلم تعين أقرب الأماكن ، ولا نسلم أن قوله " أنت طالق ، وأنت حر " يفيد صحة الطلاق والعتق بوضعه له لغة ، بل ذلك لسبب جعل الشرع له علامة على ذلك الحكم الخالي ، ولا يلزم من ذلك أن يكون الأمر موضوعا للفور .
الثاني : أن حاصله يرجع إلى القياس في اللغة ، وهو ممتنع كما سبق .
وعن الثالث والرابع ما سبق في المسألة المتقدمة .
وعن الخامس أن توبيخه لإبليس إنما كان ذلك لإبائه واستكباره ، ويدل عليه قوله تعالى : (
إلا إبليس أبى واستكبر ) ولتخيره على
آدم بقوله :
[ ص: 169 ] (
أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) ولا يمكن إضافة التوبيخ إلى مطلق الأمر من حيث هو أمر ; لأنه منقسم إلى أمر إيجاب واستحباب ، كما سبق تقريره ، ولا توبيخ على مخالفة أمر الاستحباب إجماعا .
ولو كان التوبيخ على مطلق الأمر ، لكان أمر الاستحباب موبخا على مخالفته ، فلم يبق إلا أن يكون التوبيخ على أمر الإيجاب ، وهو منقسم إلى أمر إيجاب على الفور ، وأمر إيجاب على التراخي ، كما إذا قال " أوجبت عليك متراخيا " ولا يلزم منه أن يكون مطلق الأمر للإيجاب حالا .
وإن سلمنا أنه وبخه على مخالفة الأمر في الحال ، ولكن لا نسلم أن الأمر بالسجود كان مطلقا ، بل هو مقترن بقرينة لفظية موجبة لحمله على الفور ، وهي قوله تعالى : (
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) رتب السجود على هذه الأوصاف بفاء التعقيب ، وهي مقتضية للسجود عقبها على الفور من غير مهلة .
قولهم لم قلتم بأنه لا يكون مستلزما للفور بواسطة دلالته على وجوب الفعل قلنا الأصل عدم ذلك .
قولهم : إنه يجب تعجيل اعتقاد وجوب الفعل ، قلنا ولم يلزم منه تعجيل وجوب الفعل
>[2] .
قولهم : إنه من لوازم وجوب الفعل ، قلنا : من لوازم وجوب تقديم الفعل ، أو من لوازم وجوب الفعل ، الأول ممنوع ، والثاني مسلم ، ولكن لا يلزم منه وجوب تقديم الفعل ، بدليل ما لو أوجب الفعل مصرحا بتأخيره ، فإنه يجب تعجيل اعتقاد وجوبه ، وإن لم يكن وجوب الفعل على الفور .
قولهم : القول بالتعجيل أحوط للمكلف ، قلنا : الاحتياط إنما هو باتباع المكلف ما أوجبه ظنه : فإن ظن الفور ، وجب عليه اتباعه ، وإن ظن التراخي ، وجب عليه اتباعه ، وإلا فبتقدير أن يكون قد غلب على ظنه التراخي ، فالقول بوجوب التعجيل على خلاف ظنه ، يكون حراما وارتكاب المحرم يكون إضرارا ، فلا يكون احتياطا .
قولهم : لو جاز التأخير ، إما أن يكون إلى غاية ، أو لا إلى غاية إلى آخره
[ ص: 170 ] فهو منقوض بما لو صرح الآمر بجواز التأخير ، فإن كل ما ذكروه من الأقسام متحقق فيه ، مع جواز تأخيره .
وما ذكروه من الآيتين الأخيرتين فهي غير دالة على وجوب تعجيل الفعل المأمور به ، فإنهما بمنطوقهما يدلان على المسارعة إلى الخيرات والمغفرة .
والمراد به إنما هو المسارعة إلى سبب ذلك ، ودلالتهما على السبب إنما هي بجهة الاقتضاء ، والاقتضاء لا عموم له ، على ما يأتي تقريره ، فلا دلالة لهما على المسارعة إلى كل سبب للخيرات والمغفرة ، فيختص ذلك بما اتفق على وجوب تعجيله من الأفعال المأمور بها ، ولا يعم كل فعل مأمور به
>[3] .