[ ص: 130 ] النوع الثاني
فيما يتعلق في المتن وفيه بابان ، أولهما فيما يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع ، وثانيهما فيما يشترك فيه الكتاب والسنة دون ما عداهما من الأدلة .
الباب الأول
فيما يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع
وكل واحد من هذه الأصول الثلاثة ، إما أن يدل على المطلوب بمنظومه ، أو لا بمنظومه ، فلنفرض في كل واحد منها قسما
القسم الأول
في دلالات المنظوم ، وهي تسعة أصناف
الصنف الأول - في الأمر وفيه أربعة أبحاث
أولهما : فيما يدل اسم الأمر عليه حقيقة .
وثانيها : في حد الأمر الحقيقي .
وثالثها : في صيغة الأمر الدالة عليه ، ورابعها : في مقتضاه .
البحث الأول : . فيما يطلق عليه اسم الأمر حقيقة
فنقول : اتفق الأصوليون على أن اسم الأمر حقيقة في القول المخصوص ، وهو قسم من أقسام الكلام ، ولذلك قسمت العرب الكلام إلى أمر ونهي ، وخبر واستخبار ، ووعد ووعيد ونداء ، وسواء قلنا إن الكلام هو المعنى القائم بالنفس ، أو العبارة الدالة بالوضع والاصطلاح ، على اختلاف المذاهب [1] والكلام القديم النفساني عندنا [2] وإن كان صفة واحدة لا تعدد فيه في ذاته ، غير أنه يسمى أمرا [ ص: 131 ] ونهيا وخبرا إلى غير ذلك من أقسام الكلام ، بسبب اختلاف تعلقاته ، ومتعلقاته ، كما سبق تقريره [3] في ( أبكار الأفكار ) فلا يمتنع أن يكون الأمر قسما من أقسامه بهذا التفسير ، وإنما وقع الخلاف بينهم في إطلاق اسم الأمر على الفعل ، هل هو حقيقة أو لا ؟ والأكثرون على أنه مجاز ، واختيار أبي الحسين البصري أنه مشترك بين الشيء والصفة ، وبين جملة الشأن والطرائق ، ووافق على أنه ليس حقيقة في نفس الفعل ، من حيث هو فعل ، بل من حيث هو شيء .
وها نحن نذكر حجج كل فريق وننبه على ما فيها ، ونذكر بعد ذلك ما هو المختار ، أما حجة أبي الحسين البصري على ما ذهب إليه أن الإنسان إذا قال ( هذا أمر ) لم يدر السامع مراده من قوله إلا بقرينة وهو غير صحيح ، لكونه مصادرا [4] بدعوى التردد في إطلاق اسم الأمر ، ولا يخفى ظهور المنع من مدعي الحقيقة في القول المخصوص ، وأنه مهما أطلق اسم الأمر عنده كان المتبادر إلى فهمه القول المخصوص ، وأنه لا ينصرف إلى غيره إلا بقرينة ولا يخفى امتناع تقرير التردد مع هذا المنع .
وأما حجج القائلين بكونه مجازا في الفعل فكثيرة .
الأولى منها : أنه لو كان حقيقة في الفعل مع كونه حقيقة في القول لزم منه الاشتراك في اللفظ ، وهو خلاف الأصل ، لكونه مخلا بالتفاهم لاحتياجه في فهم المدلول المعين منه إلى قرينة ، وعلى تقدير خفائها ، لا يحصل المقصود من الكلام .
الثانية ، أنه لو كان حقيقة في الفعل لاطرد في كل فعل ، إذ هو لازم الحقيقة ، ولهذا فإنه لما كان إطلاق اسم العالم على من قام به العلم حقيقة ، اطرد في كل من قام به العلم ، ولما كان قوله : ( واسأل القرية ) مجازا عن أهلها ، لما بينهما من المجاورة ، لم يصح التجوز بلفظ السؤال للبساط والكوز عن صاحبه ، وإن كانت الملازمة بينهما أشد ، وهو غير مطرد ، إذ لا يقال للأكل والشرب أمر .
الثالثة ، أنه لو كان حقيقة في الفعل ، لاشتق لمن قام به منه اسم الأمر ، كما في القول المخصوص ، إذ هو الأصل إلا أن يمنع مانع من جهة أهل اللغة [ ص: 132 ] كما اشتقوا اسم القارورة للزجاجة المخصوصة ، من قرار المائع فيها ، ومنعوا من ذلك في الجرة والكوز ولم يرد مثله فيما نحن فيه .
الرابعة : أن جمع الأمر الحقيقي في القول المخصوص بأوامر ، وهو لازم له لنفس الأمر لا للمسمى ، وهو غير متحقق في الفعل ، بل إن جمع فإنما يجمع بأمور .
الخامسة : أن الأمر الحقيقي له متعلق ، وهو المأمور ، وهو غير متحقق في الفعل ، فإنه وإن سمي أمرا ، فلا يقال له مأمور ، ويلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم .
السادسة : أن من لوازم الأمر الحقيقي ، وصفه بكونه مطاعا أو مخالفا ، ولا كذلك الفعل ، وفي هذه الحجج نظر .
أما الأولى : فلقائل أن يقول : لا نسلم أنه يلزم من كونه حقيقة في الفعل ، أن يكون مشتركا [5] إذا أمكن أن يكون حقيقة فيهما باعتبار معنى مشترك بين القول المخصوص ، والفعل ، فيكون متواطئا [6] .
فإن قيل : الأصل عدم ذلك المسمى المشترك ، فلا تواطؤ ، قيل : لا خفاء باشتراكهما في صفات ، وافتراقهما في صفات ، فأمكن أن يكون بعض الصفات المشتركة هو المسمى ، كيف وإن الأصل أن لا يكون اللفظ مشتركا ولا مجازا ، لما فيه من الافتقار إلى القرينة المخلة بالتفاهم ، وليس أحد الأمرين [7] أولى من الآخر .
فإن قيل : ما وقع به الاشتراك [8] لا يخرج عن الموجود والصفة والشبيه [9] وغير ذلك ، وأي أمر قدر الاشتراك فيه ، فهو متحقق في النهي وسائر أقسام الكلام ، ولا يسمى أمرا .
والقول [10] بأنه متواطئ ممتنع ، كيف وإن القائل قائلان ، قائل إنه مشترك [11] وقائل إنه مجاز في الفعل ، فإحداث قول ثالث [12] يكون خرقا للإجماع وهو ممتنع .
[ ص: 133 ] قلنا : أما الأول فغير صحيح ، وذلك أن مسمى اسم الأمر إنما هو الشأن والصفة ، وكل ما صدق عليه ذلك كان نهيا أو غيره ، فإنه يسمى أمرا حقيقة .
وعلى هذا فقد اندفع ما ذكروه من خرق الإجماع [13] فإن ما ذكرناه من جعل الشأن والصفة ، مدلولا لاسم الأمر ، فمن جملة ما قيل وإن سلمنا [14] أن ذلك يفضي إلى الاشتراك ، ولكن لم قيل بامتناعه .
والقول بأنه مجاز مخل بالتفاهم [15] لافتقاره إلى القرينة وإنما يصح أن لو لم يكن اللفظ المشترك عند إطلاقه محمولا على جميع محامله ، وليس كذلك على ما سيأتي تقديره في مذهب الشافعي والقاضي أبي بكر ، سلمنا أنه خلاف الأصل ، وليس أحد الأمرين [16] أولى من الآخر .
فإن قيل : إلا أن محذور الاشتراك أعظم من محذور التجوز ، فكان المجاز أولى ، وبيانه من جهة الإجمال والتفصيل ، أما الإجمال فهو أن المجاز أغلب في لغة العرب من الاشتراك [17] ولولا أنه أوفى بتحصيل مقصود الوضع ، لما كان كذلك ، وأما التفصيل فمن وجهين .
الأول : أن المحذور اللازم من الاشتراك بافتقاره إلى القرينة لازم له أبدا ، بخلاف المجاز : فإن المحذور إنما يلزمه بتقدير إرادة جهة المجاز ، وهو احتمال نادر ، إذ الغالب إنما هو إرادة جهة الحقيقة .
الثاني : أن المحذور لازم في المشترك في كل محمل من محامله ، لافتقاره إلى القرينة في كل واحد منها ، بخلاف المجاز ، فإنه إنما يفتقر إلى القرينة بتقدير إرادة جهة المجاز ، لا بتقدير إرادة جهة الحقيقة ، قيل هذا معارض [18] من عشرة أوجه ، [ ص: 134 ] الأول : أن المشترك لكونه حقيقة في كل واحد من مسمياته مما يطرد ، بخلاف المجاز كما سبق ، وما يطرد أولى لقلة اضطرابه .
الثاني : أنه يصح منه الاشتقاق ، لكونه حقيقة بخلاف المجاز ، فكان أوسع في اللغة وأكثر فائدة .
الثالث : أنه لكونه حقيقيا ، مما يصح التجوز به في غير محله الحقيقي ، بخلاف المجاز ، فكان أولى لكثرة فائدته .
الرابع : أنه وإن افتقر إلى قرينة ، لكن يكفي أن يكون أدنى ما يغلب على الظن ، بخلاف المجاز ، لافتقاره إلى مغلبة على الظن ، وأن تكون راجحة على جهة ظهور اللفظ في حقيقته ، فكان تمكن الخلل معه لذلك أكثر .
الخامس : أن المجاز لا بد فيه من علاقة بينه وبين محل الحقيقة ، تكون مصححة للتجوز باللفظ ، على ما سلف ، بخلاف المشترك .
السادس : أن المجاز لا يتم فهمه دون فهم محل الحقيقة ضرورة كونه مستعارا منه ، وفهم كل واحد من مدلولات اللفظ المشترك غير متوقف على فهم غيره ، فكان أولى .
السابع : أن المجاز متوقف على تصرف من قبلنا في تحقيق العلاقة التي هي شرط في التجوز ، وربما وقع الخطأ فيه : بخلاف اللفظ المشترك .
الثامن : أنه يلزم من العمل باللفظ في جهة المجاز مخالفة الظهور في جهة الحقيقة ، بخلاف اللفظ المشترك ، إذ لا يلزم من العمل به في أحد مدلوليه مخالفة ظاهر أصلا .
التاسع : أن المجاز تابع للحقيقة ولا عكس ، فكان المشترك أولى .
العاشر : أن السامع للمجاز بتقدير عدم معرفته بالقرينة الصارفة إلى المجاز ، إذا كان هو مراد المتكلم فقد يبادر إلى العمل بالحقيقة ، ويلزم منه ترك المراد وفعل ما ليس بمراد ، بخلاف المشترك ، فإنه بتقدير عدم ظهور القرينة مطلقا ، لا يفعل شيئا فلا يلزم سوى عدم المقصود .
فإن قيل إلا أن المجاز يتعلق به فوائد ، فإنه ربما كان أبلغ وأوجز وأوفق في بديع الكلام ونظمه ونثره للسجع والمطابقة والمجانسة واتحاد الروي في الشعر ، إلى غير ذلك .
[ ص: 135 ] قلنا : ومثل هذا أيضا منقدح في اللفظ المشترك مع كونه حقيقة ، فكان اللفظ المشترك أولى ، وإن لم يكن أولى فلا أقل من المساواة ، وهي كافية في مقام المعارضة [19] .
وأما الحجة الثانية ، فلا نسلم امتناع إطلاق الأمر على الأكل والشرب ، وإن سلم ذلك فعدم اطراده في كل فعل إن كان مما يمنع من كونه حقيقة في بعض الأفعال فعدم اطراده في كل قول مما يمنع كونه حقيقة في القول المخصوص ، وهو غير مطرد في كل قول على ما لا يخفى [20] ، وإن كان لا يمنع من ذلك في القول فكذلك في الفعل .
فإن قيل : إنما يجب اطراد الاسم في المعنى الذي كان الاسم حقيقة فيه ، لا في غيره ، والأمر إنما كان حقيقة في القول المخصوص ، لا في مطلق قول ، وهو مطرد في ذلك القول ، فمثله [21] لازم في الأفعال ، إذ للخصم أن يقول إنما هو حقيقة في بعض الأفعال ، لا في كل فعل .
أما الحجة الثالثة : أنه لو كان الأصل في الحقائق الاشتقاق لكان المنع من اشتقاق اسم القارورة للجرة والكوز من قرار المائع فيها على خلاف الأصل .
فإن قيل : ولو لم يكن على وفق الأصل لكان الاشتقاق في صور الاشتقاق على خلاف الأصل ، والمحذور اللازم منه أكثر ; لأن صور الاشتقاق أغلب وأكثر من صور عدم الاشتقاق .
قيل لا يلزم من عدم الأصالة في الاشتقاق أن يكون الاشتقاق على خلاف الأصل لجواز أن يكون الاشتقاق وعدمه لا على وفق أصل فيقتضيه ، بل هما تابعان للنقل والوضع .
كيف وإنه إذا جاز أن يكون الاشتقاق من توابع الحقيقة جاز أن يكون من توابع بعض المسميات ، وليس أحد الأمرين أولى من الآخر ، وعلى هذا فلا يلزم من الاشتقاق في بعض المسميات الاشتقاق في غيره ؛ لعدم الاشتراك في ذلك المسمى .
[ ص: 136 ] وبهذا يندفع ما ذكروه من الحجة الرابعة ، والخامسة ، والسادسة .
كيف وقد قيل في الحجة الرابعة إن ( أوامر ) ليست جمع ( أمر ) بل جمع ( أمره ) وأما القائلون بكونه مشتركا بين القول المخصوص والفعل ، فقد احتجوا بثلاث حجج .
الأولى : أن المسمى في نفسه مختلف ، وكما قد أطلق اسم الأمر على القول المخصوص ، فقد أطلق على الفعل ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، ويدل على الإطلاق قول العرب : أمر فلان مستقيم ، أي عمله ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : ( وما أمرنا إلا واحدة ) أي فعلنا ( وما أمر فرعون برشيد ) .
الحجة الثانية : أن اسم الأمر في الفعل قد جمع بأمور والجمع علامة الحقيقة .
والحجة الثالثة : أنه لو كان اسم الأمر في الفعل مجازا لم يخل : إما أن يكون مجازا بالزيادة أو بالنقصان ، أو لمشابهته لمحل الحقيقة ، أو لمجاور له ، أو لأنه كان عليه أو سيؤول إليه ، ولم يتحقق شيء من ذلك في الفعل ، وإذا لم يكن مجازا كان حقيقة ، وهذه الحجج ضعيفة أيضا .
أما الحجة الأولى : فلقائل أن يقول لا نسلم صحة إطلاق اسم الأمر على الفعل ، وقولهم ( أمر فلان مستقيم ) ليس مسماه الفعل ، بل شأنه ، وصفته وهو المراد من قوله تعالى : ( وما أمرنا إلا واحدة ) ، ومن قوله : ( وما أمر فرعون برشيد ) .
وأما الحجة الثانية ، فلا نسلم أن الجمع دليل الحقيقة ، بدليل قولهم في جمع من سمي ( حمارا ) لبلادته ( حمر ) وهو مجاز ، وإن سلمنا بأن الجمع يدل على الحقيقة ، ولكن لا نسلم أن ( أمور ) جمع ( أمر ) بل الأمر والأمور كل واحد منهما يقع موقع الآخر وليس أحدهما جمعا للآخر .
ولهذا يقال ( أمر فلان مستقيم ) فيفهم منه ما يفهم من قولهم ( أمور فلان مستقيمة ) .
وأما الحجة الثالثة : فهو أنه لا يلزم من كون الأمر ليس مجازا في الفعل أن يكون حقيقة فيه من حيث هو فعل ، وإنما هو حقيقة فيه من جهة ما اشتمل عليه من معنى الشأن والصفة كما سبق .
[ ص: 137 ] وعلى هذا ، فالمختار إنما هو كون اسم الأمر متواطئا في القول المخصوص والفعل ، لا أنه مشترك [22] ولا مجاز في أحدهما .