فإن قيل : أما الحروف المعجمة التي في أوائل السور فهي أسماؤها .
وأما العبادات الحادثة فمن حيث إنها أفعال محسوسة معلومة للعرب ومسماة بأسماء خاصة لها لغة ، غير أن الشرع اعتبرها في الثواب والعقاب عليها بتقدير الفعل أو الترك ، وليس في ذلك ما يدل على اشتمال القرآن على ما ليس بعربي .
وأما الآيات المذكورة فهي محمولة على مدلولاتها لغة .
أما قوله تعالى : (
وما كان الله ليضيع إيمانكم ) فالمراد به تصديقكم بالصلاة ، وقوله تعالى : ( أقيموا الصلاة ) فالمراد به الدعاء .
وكذلك قوله : ( وآتوا الزكاة ) فالمراد به النمو .
والمراد من الصوم الإمساك ، ومن الحج القصد ، غير أن الشارع شرط في إجزائها وصحتها شرعا ضم غيرها إليها . وليس في ذلك ما يدل على تغيير الوضع اللغوي ، وإن سلمنا دخول هذه الشروط في مسمى هذه الأسماء لكن بطريق المجاز ، أما في الصلاة فمن جهة أن الدعاء جزؤها ، والشيء قد يسمى باسم جزئه ، ومنه قول الشاعر :
يناشدني حاميم والرمح شاجر فهلا تلا حاميم قبل التقدم
.
وأراد به القرآن ، فسماه باسم جزئه ، وكذلك الكلام في الصوم والزكاة والحج .
ويمكن أن يقال بأن تسمية الصوم الخاص وكذلك الزكاة والحج والإيمان ، من باب التصرف بتخصيص الاسم ببعض مسمياته لغة كما في لفظ
[ ص: 40 ] الدابة ،
والشارع له ولاية هذا التصرف كما لأهل اللغة ، ويخص الصلاة أن أفعالها إنما سميت صلاة لكونها مما يتبع بها فعل الإمام . فإن التالي للسابق من الخيل يسمى مصليا لكونه تابعا ، ويخص الزكاة أن تسمية الواجب زكاة باسم سببه ، والتجوز باسم السبب عن المسبب جائز لغة ، والمجاز من اللغة لا من غيرها .
قلنا : أما الحروف فإنها إذا كانت أسماء لآحاد السور فهي أعلام لها وليست لغوية ، فقد اشتمل القرآن على ما ليس من لغة العرب ، وما ذكروه في العبادات الحادثة في الشرع ، فإنما يصح ، أن لو لم تكن قد أطلق عليها أسماء لم تكن العرب قد أطلقتها عليها ، ويدل على هذا الإطلاق ما ذكر من الآيات .
قولهم : إن هذه الأسماء محمولة على موضوعاتها لغة غير أن الشارع شرط في إجزائها شروطا لا تصح بدونها ، فإن
>[1] مسمى الصلاة في اللغة هو الدعاء .
وقد يطلق اسم الصلاة على الأفعال التي لا دعاء فيها ، كصلاة الأخرس الذي لا يفهم الدعاء في الصلاة حتى يأتي به ، وبتقدير أن يكون الدعاء متحققا فليس هو المسمى بالصلاة وحده ، ودليله أنه يصح أن يقال : إنه في الصلاة حالة كونه غير داع ، ولو كان هو المسمى بالصلاة لا غير لصح عند فراغه من الدعاء أن يقال : خرج من الصلاة ، وإذا عاد إليه يقال : عاد إلى الصلاة ، وأن لا يسمى الشخص مصليا حالة عدم الدعاء مع تلبسه بباقي الأفعال ، وكل ذلك خلاف الإجماع .
قولهم : تسمية هذه الأفعال بهذه الأسماء إنما هو بطريق المجاز .
قلنا : الأصل في الإطلاق الحقيقة .
قولهم : إن الدعاء جزء من هذه الأفعال ، والشيء قد يسمى باسم جزئه .
قلنا : كل جزء أو بعض الأجزاء ، الأول ممنوع ، والثاني مسلم .
ولهذا فإن العشرة لا تسمى خمسة ، ولا الكل جزءا وإن كان بعضه يسمى جزءا ، إلى أمثلة كثيرة لا تحصى .
[ ص: 41 ] وليس القول بأن ما نحن فيه من القبيل الجائز أولى من غيره ، وإن سلمنا صحة ذلك تجوزا ، ولكن ليس القول بالتجوز في هذه الأسماء ، وإجراء لفظ القرآن على حقيقته أولى من العكس .
فإن قيل : بل ما ذكرناه أولى ، فإن ما ذكرتموه يلزم منه النقل وتغيير اللغة ، فيستدعي ثبوت أصل الوضع وإثبات وضع آخر . والوضع اللغوي لا يفتقر إلى شيء آخر ، ولا يلزم منه تغيير فكان أولى . وأيضا فإن الغالب من الأوضاع البقاء لا التغيير ، وإدراج ما نحن فيه تحت الأغلب أغلب .
قلنا : بل جانب الخصم أولى ; لما فيه من ارتكاب مجاز واحد ، وما ذكرتموه ففيه ارتكاب مجازات كثيرة فكان أولى . وعلى هذا فقد اندفع قولهم بالتجوز بجهة التخصيص أيضا ، وما ذكروه من تسمية أفعال الصلاة لما فيها من المتابعة للإمام ، فيلزم منه أن لا تسمى صلاة الإمام والمنفرد صلاة لعدم هذا المعنى فيها .
وقولهم في الزكاة : أن الواجب سمي زكاة باسم سببه تجوزا فيلزم عليه أن لا تصح تسميته زكاة ، عند عدم النماء في المال ، وإن كان النماء حاصلا فالتجوز باسم السبب عن المسبب جائز مطلقا أو في بعض الأسباب ، الأول ممنوع والثاني مسلم . ولهذا فإنه لا يصح تسمية الصيد شبكة ، وإن كان نصبها سببا له ، ولا يسمى الابن أبا وإن كان الأب سببا له ، وكذلك لا يسمى العالم إلها وإن كان الإله تعالى سببا له
>[2] ، إلى غير ذلك من النظائر .
وعند ذلك فليس القول بأن ما نحن فيه من قبيل التجوز به أولى من غيره .
وأما
المعتزلة فقد احتجوا بما سبق من الآيات وبقولهم : إن الإيمان في اللغة هو التصديق ، وفي الشرع يطلق على غير التصديق . ويدل عليه قوله عليه السلام
[ ص: 42 ] : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=10355089الإيمان بضع وسبعون بابا أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ) . سمى إماطة الأذى إيمانا وليس بتصديق .
وأيضا فإن الدين في الشرع عبارة عن فعل العبادات وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بدليل قوله تعالى : (
وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) إلى آخر الآية ، ثم قال : (
وذلك دين القيمة ) فكان راجعا إلى كل المذكور .
والدين هو الإسلام لقوله تعالى : (
إن الدين عند الله الإسلام ) والإسلام هو الإيمان ، فيكون الإيمان في الشرع هو فعل العبادات .
ودليل كون الإيمان هو الإسلام أنه لو كان غير الإسلام لما كان مقبولا من صاحبه لقوله تعالى : (
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) .
وأيضا فإنه استثنى المسلمين من المؤمنين في قوله تعالى : (
فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ) والأصل أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه .
>[3] وأيضا قوله تعالى : (
وما كان الله ليضيع إيمانكم ) وأراد به الصلاة إلى بيت المقدس .
وأيضا فإن قاطع الطريق وإن كان مصدقا فليس بمؤمن لأنه يدخل النار بقوله تعالى : (
ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) والداخل في النار مخزي لقوله تعالى حكاية عن أهل النار
>[4] (
ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ) مع التقرير لهم على ذلك ، والمؤمن غير مخزي ؛ لقوله تعالى : (
يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه ) .
>[5] [ ص: 43 ] وأيضا فإن المكلف يوصف بكونه مؤمنا حالة كونه غافلا عن التصديق بالنوم وغيره .
وأيضا فإنه لو كان الإيمان في الشرع هو الإيمان اللغوي أي التصديق لسمي في الشرع المصدق بشريك الإله تعالى مؤمنا ، والمصدق بالله مع إنكار الرسالة مؤمنا . . . إلى نظائره .
ولقائل أن يقول : أما الآيات السابق ذكرها فيمكن أن يقال في جوابها : إن إطلاق اسم الصلاة والزكاة والصوم والحج إنما كان بطريق المجاز على ما سبق ، والمجاز غير خارج عن اللغة ، وتسمية إماطة الأذى عن الطريق إيمانا أمكن أن يكون لكونه دليلا على الإيمان ، فعبر باسم المدلول عن الدال وهو أيضا جهة من جهات التجوز .
>[6] فإن قيل : الأصل إنما هو الحقيقة .
قلنا : إلا أنه يلزم منه التغيير ومخالفة الوضع اللغوي ، فيتقابلان وليس أحدهما أولى من الآخر لما سبق .
وقولهم : إن الإيمان هو الإسلام بما ذكروه فهو معارض بقوله تعالى : (
قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ) ولو اتحدا لما صح هذا القول
>[7] ، وليس أحدهما أولى من الآخر بل الترجيح للتغاير نظرا إلى أن الأصل عند تعدد الأسماء تعدد المسميات ؛ ولئلا يلزم منه التغيير في الوضع ، وبهذا يندفع ما ذكروه من الاستثناء .
وقوله تعالى : (
وما كان الله ليضيع إيمانكم ) فالمراد به التصديق بالصلاة
[ ص: 44 ] لا نفس الصلاة ، فلا تغيير وإن كان المراد به أن الصلاة لما كانت تدل على التصديق سميت باسم مدلولها ، وذلك مجاز من وضع اللغة .
وقوله تعالى : (
يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه ) لا يتناول كل مؤمن بل من آمن مع النبي عليه السلام
>[8] وهو صريح في ذلك ، وأولئك لم يصدر منهم ما دل صدر الآية عليه ، من الحراب لله ورسوله ، والسعي في الأرض بالفساد الذي أوجب دخول النار في الآية ، ولا يلزم من نفي الخزي عمن آمن مع النبي نفيه عن غيره .
وقولهم : إن المكلف يوصف بالإيمان حالة كونه غافلا عن التصديق بالله تعالى ، إنما كان ذلك بطريق المجاز لكونه كان مصدقا وأنه يؤول إلى التصديق ، وهو جهة من جهات التجوز .
وما يقال من أن الأصل الحقيقة ، فقد سبق جوابه ، كيف وإن ذلك لازم لهم في كل ما يفسرون الإيمان به ، ومع اتحاد المحذور فتقرير الوضع أولى .
والمصدق بشريك الإله تعالى ليس مؤمنا شرعا ; لأن الإيمان في الشرع مطلق ليس تصديق بل تصديق خاص ، وهو التصديق بالله وبما جاءت به رسله ، هو من باب تخصيص الاسم ببعض مسمياته في اللغة ، فكان مجازا لغويا ، وبه يندفع ما قيل من التصديق بالله والكفر برسوله ، حيث إن مسمى الإيمان الشرعي لم يوجد .
وإذا عرف ضعف المأخذ من الجانبين فالحق عندي في ذلك إنما هو إمكان كل واحد من المذهبين .
وأما ترجيح الواقع منهما فعسى أن يكون عند غيري تحقيقه .
>[9]